الحزينة التي لا تشرب شنينة

الحزينة التي لا تشرب شنينة

11 ابريل 2020
+ الخط -
تركنا أبطالَ قصتنا أفراد "شلة فتح الله"، ومعهم صديقنا الظريف "أبو نادر" مقطوعين في مكان لا تمرّ به سيارات عامة أو خاصة إلا لماماً. 

كان أبو نادر، في هذا الوقت المهدور، يُفرغ شحنات غيظه (ونَدَمِهِ على مرافقة أفراد الشلة في هذه الرحلة الغبية) بالحديث مع سائق السيارة المتعطلة، متهكماً على الفن الهابط، من خلال مناقشة ظاهرُها جِدّي لكلمات أغنية يغنيها مطرب محلي يقول فيها إنه يحب الشاي أكثر مما يحب الشنينة (العيران)! وفجأة، مرت بهم سيارة ذاهبة إلى قرية أم الزرازير، وفيها بضعة رجال تبين أنهم هم الآخرون مدعوون لحضور عرس عباد بن أبي عباد. أفراد شلة فتح الله أوقفوا السيارة واتفقوا مع سائقها على أن يفرغ ركابه في القرية ويرجع إليهم لينقلهم إما إلى إدلب، ليتآووا في بيوتهم، أو إلى قرية أم الزرازير لحضور العرس الميمون، على أن يدفعوا له ما يشاء من المال عندما يتم الأمر.

بعد مغادرة السيارة المذكورة، عاد المشهد إلى ما كان عليه. وعاد أبو نادر يحكي للسائق أحاديث لا يفهمها السائق تماماً، ولكنه يستغربها، ويستمتع بها، ويراها ضرورية لقتل وقت الانتظار الممل.  

قال أبو نادر للسائق: كنت عم بحكي لك على موضوع الطرب والشاي والشنينة. يا سيدي الكريم، كنا، في مرة من المرات، قاعدين عند صديقنا أبو نعيم. شوفه، هداكا اللي حاطط إيده على تمه وعم يضحك من تحت لتحت متل إبليس اللعين.. وكنا عم نسمع أغنية "سَلُوا قلبي" اللي غنتها أم كلثوم سنة 1946. بوقتها "سومة"، يعني أم كلتوم، كانت عم تخوض مرحلة جديدة من حياتها الفنية، بعدما حصلت قطيعة بينها وبين زكريا أحمد، صار يلحن لها رياض السنباطي، وأخدوا قصيدة من أحمد شوقي، عنوانها "سَلُوا قلبي" ولحنها السنباطي، وطلعت معه شغلة بديعة.. المهم بقى سيدي، كنا عم نسمع، والجو سكوت تام، إذا بتُوقَع الإبرة عالأرض بينسمع لها رنة، ومسلطنين بشكل خاص على قول سومة: 

تَسَرَّبَ في الدموعِ فقلتُ وَلَّى

وصَفَّقَ في القلوبِ فقلتُ ثابا 

وإذ، في هاللحظة التاريخية، اندقّ الباب.. بتعرف ليش قلت لك (اندقّ) الباب وما قلت لك رن جرس الباب؟ 

قال السائق: ما بعرف. ليش أشو بتفرق؟

قال أبو نادر: بتفرق كتير. لأنه الشخص اللي وصل في هاللحظة من شدة خشونته وغلاظته ما شاف الجرس كله على بعضه، يا إما شافُه لكن ما اكترث فيه، وقال لحاله إنه عيب على رجل طويل وعريض وشواربه كبار إنه يتنازل ويكبس زر الجرس، لأن الجرس أصلاً شغل ستات، وقرر يستعرض أمامنا رجولته، فبلش يخبط الباب بإيديه ورجليه ع الباب، متل المخابرات لما بيجوا حتى يعتقلوا زلمة نايم جنب زوجته. ركض أبو نعيم وأولاده وفتحوا الباب، ونحن صرنا متلهفين لنعرف مين هالضيف الظريف، وتبين إلنا إنه هوي الأستاذ المحترم الملقب "أبو شروال الوَزّة"! أكيد إنته بتعرف الأخ "أبو شروال الوَزّة"، لأنه هوي أشهر من نار على علم، شهرته أصلاً جاية من ذائقته الفنية العالية في الغناء والطرب.. الخلاصة، سلم علينا بطريقته اللطيفة، وقال: السلام عليكووون.. ولما حاولنا نوقف احتراماً له قال: 

- علي الطلاق بالتلاتة ما حدا بيوقف. أشو أنا غريب؟ إنتوا كلكم صدقاتي وصحابي، بعدين الوقفة للضيف عادة فرنجية بتهوي.. 

وبكل موانة وأريحية مد إيده باتجاه المسجلة وقال: 

- بلا مأمور عليك يا خاي أبو نعيم، اطفي لنا هالبَلَّاطة (يعني المسجلة)، أنا جايب لكم معي مفاجأة عالمية. 

ونتر يا سيدي من جيبه كاسيت بيغني فيه المطرب المحلي اللي حكيت لك عنه، وسمعنا بوقتها هادا الموال تبع الحزينة اللي ما بتشرب شنينة، ومولعة بشرب الشاي. هون بقى يا معلم، بيصيح المطرب موال تاني عن الحزينة.. 

قال السائق: كمان بيسميها الحزينة؟

قال أبو نادر: لا. بيسميها "الحلو". بالغناء بيستخدموا كلمة "الحلو" في وصف الرجل، وبوصف المرأة، يعني هادا نوع من المجاز اللغوي، كمان بيقولوا عن الرجل "ولف"، ونفس الشي عن المرأة. المهم صاح صاحبنا بالموال: 

غربي المعرة وبعد

شرقي بَلَد منطف

بعيني أنا شفت الحلو

قاعد ومتلهف.

قال السائق: كويس هالموال.

قال أبو نادر: طبعاً كويس، وكل شي سمعناه من هالمطرب كويس.. ونحن بصراحة تندمنا ع الوقت اللي ضيعنا بسماع "سلوا قلبي".. دخلك أشو هالمعاني التعبانة لما بتقول:

وكنتُ إذا سألتُ القلبَ يوماً

تولى الدمع عن قلبي الجوابا

المعاني النبيلة العظيمة أنك تحكي عن "حلو" قاعد بين المعرة ومنطف. المهم يا سيدي، أنا في عندي عادة بشعة، تعلمتها من والدي الله يرحمه. وهيي عادة الشك الطبوغرافي! كان والدي يقول لي إذا حدا حكى لك عن رجل ومدحه قدامك لازم تشك بكلامه، وتتعرف ع الشخص وتتأكد، وإذا حدا حكى لك عن مكان جميل روح عالمكان اللي حكى لك عنه وتأكد من جماله بنفسك. يعني مثلاً واحد قال لي: يا أبو نادر جبل الأربعين مصيف ممتاز، وبالصيف لما بتكون الحرارة أربعين بتقعد في الجبل بتحس كأني درجة الحرارة عشرين، وإطلالته كويسة وهواه نضيف. أنا تاني يوم أخدت أم نادر والولاد وطلعنا، وعرفنا إنه الكلام صحيح بالفعل، وما في أحلى من جبل الأربعين. ولما سمعت الموال تبع المطرب اللي بيحكي عن الولف استأجرت سيارة متل سيارتك، بس هديكه شغالة ما بتتعطل بنص الطريق! ورحت باتجاه المكان اللي حدد إحداثياته المطرب بين المعرة ومنطف، لقيت إنه مكان مهجور، فيه خرابة مليانة ركام حجار وحرادين وحشرات وبعوض وبرغش.. مكان بيشبه المكان اللي حضرتك جبتنا عليه وتعطلت سيارتك فيه. وهلق صار عندي سؤالين: الأول هوي إنه هالشخص (الولف) اللي غنى له المطرب، شقد كان غبي لحتى راح على هالمنطقة المهجورة التافهة وقعد وهوي متلهف؟ والسؤال التاني إنه أنا وهدول شلة فتح الله كنا قاعدين ومبسوطين في بيوتنا، قديش نحن بهايم وأغبياء حتى نستأجر سيارتك، ونروح ع العرس، وننقطع في هالمكان المهجور؟! أغبياء ولا لأ؟ 

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...