ما بعد سقوط الكومبين (18)

ما بعد سقوط الكومبين (18)

02 ابريل 2020
+ الخط -
بدا لي عرض الشقة الجديدة الذي نقله لي محمود كمعجزة، ولذلك لم أتردد لحظة في قبوله قبل أن أعرف حتى موقع الشقة التفصيلي، وحتى لو لم يبدُ ذلك العرض كمعجزة من حيث توقيته السريع، لم أكن سأتردد أيضاً في قبوله، فقد بات قلبي ينقبض من مجرد سيرة البحث عن المطارح المفروشة وكل ما يرتبط بها من سماسرة وإعلانات واقتراحات، ولذلك أبديت موافقتي لمحمود على اقتراح السكن في الشقة الجديدة، وسارعت إلى حشر ملابسي في الحقائب وكتبي في الكراتين، لأنقلها قبل حلول موعد الإخلاء إلى الشقة الجديدة التي سأنتقل إليها، والتي سرعان ما تبين أنها تستحق لقب شقّ، لا شقة.

أنقذ محمود نفسه من غضبي العارم على الحال المزرية للشقة حين رأيناها، لأنه كان قد قال لي منذ البداية إنه لم يشاهد الشقة من قبل، وأنه تلقى عرضاً بتسكيني فيها بالصدفة، حين قابل حسن خطيب رحاب ابنة خاله الموظف المتقاعد بجهاز المخابرات العامة والذي لم أكن قد لمست منذ رأيته أية أمارة لما يحظى به من أهمية لدى جميع من يعرفه، سوى حرصه الدائم على تغطية سيارته بذلك الغطاء الثقيل بعد غسيلها المفرط كل يوم، مع أنه لم يكن يتحرك بها إلا في الشديد القوي، ومع أنني لم أكن قد تبادلت مع الرجل كلمتين على بعضهما طول فترة إقامتي في شقة الحاجة أم عادل أو فوق سطوحها، إلا أن سيرة ارتباط الرجل بجهاز المخابرات، خصوصاً في تلك الأيام التي كان فيها رأفت الهجان لا يزال على كل لسان، كانت عاملاً مهماً في دفعي إلى الإسراع بالسكن مع خطيب ابنته قبل أن آخذ فرصة للتعرف عليه وأعاين شقته قبل أن أوافق على السكن فيها، لأنني تصورت أن شخصاً واصلاً مثل خال محمود لا يمكن أن يسلم ابنته لأحد إلا بعد أن يكون قد نزل فيه فحصاً ومحصاً، وبالتالي فقد كانت الثقة في خطيب ابنة خال محمود، بمثابة ثقة في جهاز المخابرات العامة بكافة ضباطه المحنكين الذين رأيناهم في جميع المسلسلات المأخوذة عن ملفات المخابرات العامة المصرية، والذين لم يكن خال محمود يشبه أياً منهم، بل كان يشبه في ملامحه ممثلي الموساد لأنه كان أشقر اللون جاحظ العينين مبعجر الجسد غريب تكوين الوجه، ومع ذلك لم تؤثر هذه التفصيلة على ثقتي فيه وفي حسن اختياره لزوج ابنته المستقبلي.

حين التقى محمود بنسيبه حسن بالصدفة بعد وقوع أزمتي الأخيرة مع أم عادل، تذكر أن حسن كان يبحث قبل عدة أشهر عن شقة يسكن فيها مع والدته التي كان أصغر أبناءها، بعد أن صدر قرار عاجل بإزالة منزلهما في حي العمرانية الغربية، على إثر تداعيات زلزال أكتوبر 1992 المدمر، وقرر محمود أن يسأل حسن عن الطريقة التي حل بها مشكلته في العثور على سكن، وحكى له عن قصة إخلائي الفوري من شقة الحاجة أم عادل وأنني أبحث عن مكان عاجل لأسكن فيه، ففاجأه حسن بالقول إن حل مشكلتي لديه، وأنه يعرض علي أن أنتقل في أسرع وقت ممكن إلى الشقة الواسعة التي يسكنها هو وأمه لوحدهما، ولا يحتاجان إلا إلى نصفها فقط، مضيفاً أن الشقة تقع خلف معهد الرمد بالقرب من كوبري عباس، وأنني يمكن أن أشارك في دفع نصف إيجارها بدءاً من أول الشهر القادم، وأن أي خوف من أي مداهمات أمنية أو تعقيدات قانونية من التي كانت تحدث لساكني الشقق المفروشة في تلك الفترة لن يكون مطروحاً على الإطلاق، لأن عقد إيجار الشقة مكتوب باسم حسن الذي قال محمود إنه يرتبط بعلاقة صداقة وثيقة مع مالك الشقة، وهو ما بدا لي حلاً سحرياً لأزمتي، خاصة حين سمعت رقم إيجار الشقة، الذي لا أنكر أنه كان أقل من رقم إيجار شقة الحاجّة أم عادل، وهو ما جعل فأر الشك يلعب في عبّي للحظات، لكني ضربته بشبشب اليقين في أن مدرساً محترماً وكسيباً مثل حسن لن يسمح ببهدلة أمه في شقة حقيرة، وأن حسن ربما توصل إلى هذا الرقم بفضل صداقته بصاحب الشقة الذي ربما كان حسن يعطي ابنه دروساً مجانية أو مخفضة خاصة وأن سمعته كمدرس لغة إنجليزية على أعلى مستوى كانت تسبقه مثلما فهمت من محمود، ومن يدري ربما كان صاحب تلك الشقة يعرف أن حسن سيصاهر أحد المنتسبين إلى جهاز المخابرات، ولذلك قرر أن يقوم بعمل تخفيض خاص له، وبغض النظر عن أسباب انخفاض رقم إيجار الشقة، فقد بدا لي توفرها أصلاً في وقت زنقة، وفي موقع أقرب من جامعة القاهرة وبسعر أرخص من الذي أدفعه في شقة الحاجة أم عادل، دليلاً دامغاً على رضا أمي عني ودعائها المستمر والمخلص لي، خصوصاً بعد أن أثلج صدرها ما عرفته عن تفوقي الدراسي والعملي المستمرين.


حين رأيت حسن فوجئت أنه لم يكن أكبر منا بكثير، كما تصورت حين تحدث محمود عن فتوحاته البارزة في مجال الدروس الخصوصية في شوارع الجيزة وحواريها، صحيح أنه كان مصاباً بصلع مبكر التهم قطاعات واسعة من شعره، لكن وجهه كان طفولياً، وربما لذلك كان يحرص دائماً على ارتداء بدلة وكرافتة لكي يعطي نفسه وجاهة تعوض التناقض الكاريكاتوري بين وجهه الطفولي وصلعته المبكرة، ومع أني لم أكن أحب مظاهر التودد السريع التي تصيبني بالقلق من ممارسيها، وتجعلني أتحسس جيوبي وجميع فتحات جسدي خوفاً منهم، إلا أنني تحملت ما أبداه حسن نحوي من ود غامر، وشكرته على لطفه البالغ، حين أصر أن يأتي إلينا في شقة الحاجة أم عادل، ليساعدني أنا ومحمود على نقل الحقائب والكراتين إلى التاكسي الذي سيوصلنا إلى الشقة، وتخيلت أنه فعل ذلك تقديراً لنسيبه، خاصة أن خطيبته كانت تراقب العملية من بلكونة أبيها، وقد حرص حسن على توجيه أكثر من تحية إليها خلال مشاركته في نقل الكراتين وقبل أن ينقلع بنا التاكسي طاوين صفحة الحاجة أم عادل إلى الأبد، ولم أكن أعرف لا أنا ولا محمود أن ما أبداه حسن من حرص على سرعة انتقالي للسكن معه، كان تعبيراً عن حرص بالغ على ألا تطير من يده الصيدة الثمينة التي هي أنا، وأنني كنت جزءاً من خطة اتفق عليها مع خطيبته رحاب ستتضح معالمها ولكن بعد فوات الأوان.

خلال توجيهه لسائق التاكسي في رحلته القصيرة نحو الشقة الجديدة، اختار حسن أن نصل إليها بالذهاب عن طريق ميدان الجيزة، بدلاً من الوصول إليها في وقت أقصر عبر شارع المحطة أو شارع الصناديلي، شاخطاً في سائق التاكسي حين طلب زيادة أجرته التي كان قد قبضها مقدماً، وقال له إنه اختار ذلك الطريق حرصاً على سيارته لكي لا يسير بها في شوارع ضيقة لا تتسع لمرور عدة سيارات في نفس الوقت، ولم أكن أتصور أن ذلك كان جزءاً من سعيه لتحلية بضاعة الشقة، التي كان يرغب في أن يريني سهولة الوصول إليها من ميدان الجيزة، وقربها من كوبري عباس وشارع البحر الأعظم، لذلك سار بنا التاكسي إلى شارع ربيع الجيزي ومنه إلى ميدان الجيزة، وحين وصلنا إلى مشارف معهد بحوث العيون الشهير بمعهد الرمد والذي يقع على مدخل كوبري عباس ويطل على النيل مباشرة، دخل بنا التاكسي من الشارع الذي يسبق المعهد وهو شارع يحمل اسم شارع الفاتح، فسرنا فيه حتى انعطفنا إلى زقاق اسمه زقاق أبو شنب، قال حسن إنه متفرع من حارة اسمها حارة سمكة، وقد جعلني اسمها أبتسم باسبهلال لأنني كنت قد قرأت اسمها من قبل في حكايات الكاتب الساخر محمود السعدني أحد كتّابي المفضلين، والذي لم تكن الظروف قد جمعتني به بعد هو وشقيقه الممثل القدير صلاح السعدني، واعتبرت سكني في الحارة التي أنجبتهما فأل خير، مع أن حسن كان لديه سبب آخر وأقوى للتفاؤل هو الضريح الصغير الذي وقف أمامه التاكسي، والذي قال لنا حسن إنه سيكون سبباً لحلول البركة علي، لأنه ضريح (سيدي علي غارس النوى)، وبدا لي من طريقة نطقه للاسم الحافلة بالإجلال والتقدير أنه يتحدث عن ولي مهم من أولياء الله الصالحين، مع أني لم أكن قد سمعت به من قبل، ولا زلت حتى هذه اللحظة لم أسمع به، ولم أصادف شيئاً عن كراماته التي جعلت حسن متأكداً من أن بركاته ستحل علينا، وقد تكون بركاته حلت علي بالفعل، الله أعلم، لكنها بالتأكيد لم تحل على حسن نفسه.

كان منظر المنطقة بكل ما فيها مريحاً للنفس، لماذا ؟ لست أدري، لكن شيئاً ما جعلني أتصالح مع أجوائها منذ أن رأيتها، مع أن منظر البيت الصغير الذي أنزلنا الحقائب والكراتين أمامه لم يكن مبشراً على الإطلاق، وعلى العكس تماماً كان محمود الذي كان على وشك أن يحتضنني ويطبطب علي مواسياً لأنني انحدرت طبقياً من السكن في شارع المحطة بشوارعه الفرعية الفسيحة، واضطررت للسكن في زقاق ضيق قام التاكسي بسده، وأخذ سائقه ينظر إلينا بقرف وهو يتعجلنا النزول من عربيّته الحقيرة، وحين حاول البمبكة مطالباً بزيادة في أجره، منحه حسن رزعتين على سقف العربية وطلب منه أن ينصرف قبل أن يجيب لنفسه الكلام، وأخذ يشرح لي ولمحمود أننا لو سرنا في شارع الفاتح عدة خطوات، سنصل إلى شارع الخلفاء الذي سيأخذنا بعد خطوات إلى شارع البحر الأعظم وبالتحديد إلى كازينو الحمام الشهير، وأننا سنمر في طريقنا على (ميدان الشُّرفا) الذي بدا اسمه بالنسبة لي طالعاً من مسلسل درامي كلاسيكي، ثم أشار إلى الحارة وقال لنا إننا لو تجاوزنا الضريح وأخذنا كذا تخريمة يمكن أن نصل إلى البحر بشكل أسرع، مشيراً إلى دكان الطعمجي الذي يقع في البيت المجاور لنا، وإلى عربية الكبدة التي تقع على ناصية الشارع، بوصفهما من أهم عناصر الأمن الغذائي في المكان، ثم مال علي ليقول لي بصوت هامس إنه سيحكي لي بالتفصيل قصة الست عظيمة بائعة الكبدة التي علي أن أكون حذراً في التعامل معها لأسباب كثيرة، ثم يسبقني نحو باب البيت وهو يحمل أخف حقائبي.

كانت الشقة الموعودة في الدور الثالث، وكان صاحب البيت الأستاذ عبد الواحد يسكن في الدور الثاني، أما الدور الأرضي فكانت تسكنه سيدة ضخمة الحجم، لم تتردد في رمينا بنظرات غير ودودة منذ نزلنا من التاكسي، وحين دخلنا من باب البيت الحديدي الضيق، ووجدنا أن السلم رث ومقبض ولا يبشر بالخير، قرر محمود أن يحمي نفسه من غضبتي المرتقبة، فمال على أذني وقال لي إن من حقي ألا أسكن في الشقة إذا لم تعجبني، وأنني لست ملزماً أمام حسن بشيئ، فقلت له ساخراً إن عليه أن يتوقف عن مشاعر الاستعلاء الطبقي التي تصور له إن شارع المحطة قطعة من أوروبا، لا تصح مقارنتها بحواري الجيزة، وأنه لو سكن مثل حالاتي في أسوأ زخانيق شارع الهرم، لأدرك أن السكن في حارة مثل هذه أجمل وألطف بكثير، فهز رأسه متشجعاً من رد فعلي، لكن رد الشقة/الشق على تفاؤلي كان صاعقاً.


بمجرد أن دخلت من الباب، بدا لي أن فأر الشك كان محقاً في لعبه، وأن حسن كان أنتن مما تصورت، لكي يسكن أمه العجوز في شقة معفنة لا تستنظف الشمس دخولها بأي شكل، ولأن كتمان نظرات الاحتقار لكل ما أراه حولي كان أقوى من قدراتي، فقد بادر حسن الذي يفهمها وهي طايرة إلى التأكيد دون سؤال على أنه قرر السكن في هذه الشقة بشكل مؤقت، ليحل الأزمة التي وقع فيها هو وأمه، وأنه سينتقل في العام التالي إلى شقة الزوجية التي يقوم بتشطيبها، والتي سينتقل إليها هو وعروسته وأمه، وحينها يمكن أن أختار ترك الشقة أيضاً، أو أقرر إحضار من يسكن معي فيها بدلاً منهما،بعد أن أقوم بالانتقال إلى غرفتهما الأكبر حجماً والأفضل تشطيباً، وحين قال لي ذلك قبل أن أشاهد نصيبي من الشقة، أدركت أنني على وشك مواجهة مقلب معتبر، وربما جعلني ذلك أشعر حين دخلت إلى الغرفتين اللتين سأسكنهما أن أوضاعهما أقل سوءاً مما كنت أخشى.

كان السرير الموجود بالغرفة الأولى أكبر بكثير من سريري السابق في شقة الحاجة أم عادل، لدرجة أنه كان يحتل ثلاثة أرباع مساحة الغرفة، وهو أمر أسعدني، لأنني كنت من زمان أتمنى الاستمتاع بسرير عريض ومريح، لكنني حافظت مع ذلك على ملامح الاشمئناط والاحتقار لكل ما أراه في المكان، ليبدأ حسن في لعب دور السمسار الذي يقوم بعرض المزايا التي سأتمتع بها في الشقة، وعلى رأسها أنني لن أسكن في غرفة واحدة، بل سيكون لدي غرفتان متجاورتان، وأن الغرفة الصغيرة المجاورة التي يوجد بها بدل الكنبة الواحدة كنبتان، يمكن أن تكون المكان الذي أذاكر فيه وأستقبل زملائي المرحب بهم في أي وقت، وعلى رأسهم محمود بالطبع، ثم اقترح حسن علي الركن الذي يمكن أن أقوم برص كتبي فيه، لأن الدولاب الموجود في غرفة النوم لن يتسع لها، وحين قابلت كل ما قاله حسن بفتور، أخذ يوجه نظراته إلى محمود ليطلب منه أي مساندة معنوية، لكن محمود الذي شعر بالورطة منذ دخلنا من باب البيت، قرر أن يعمل فيها عبده العبيط، ويصوب ناظريه نحو بلاط الشقة الحقير وسقفها المتسخ، حتى يتضح له موقفي النهائي مما أراه.

كنت بمجرد دخولي إلى الشقة قد شعرت بصدمة كبيرة، لأنني لم أجد نفسي فقط أمام شقة أردأ من شقة الحاجة أم عادل، بل ومن شقة أم ميمي التي كنت أظنها الأردأ والأحقر على الإطلاق، لكنني لم أسمح لنفسي الأمارة بالسوء بأن تنسى ظروفها المهببة، ولا التوقيت الذي اتزنقت فيه فجأة، وأخذت أذكرها بأنني سأدفع للسكن في شقة حسن وأمه، أقل مما كنت أدفعه في غرفة شقة أم عادل بستين جنيهاً، وهو ما كان يعني زيادة كبيرة في ميزانية الكتب والسينمات، أما السبب الأهم الذي ذكرتها به لكي تتحمل حقارة الشقة، فقد كان موقعها الذهبي القريب من ميدان الجيزة والنيل وشارع البحر الأعظم وكوبري عباس وما يحيط به من حدائق جميلة،فضلاً عن قربها من حي المنيل الذي كان يقع على الجانب الآخر من كوبري عباس، وقد كنت وقتها واقعاً في غرام مقاهيه ومطاعمه وسينماته التي كانت لا تزال تعمل بكامل طاقتها، وكنت أعتبره موقعاً لأجمل خروجاتي في القاهرة أنا وناجي حيث أصبح لنا فيه العديد من الذكريات الجميلة، ومع أن كل هذه التفاصيل كانت قد حسمت قراري بالرضا بما هو متاح لي في الشقة والعمل على تجويده، إلا أنني واصلت رسم قناع الاشمئناط على وجهي، للحصول على مكاسب أكبر من الوضع المتاح، لكنني بعد ثوانٍ من خروجي من الغرفتين اللتين سأسكنهما متجهاً نحو الحمام والمطبخ لمعاينتهما، لم أعد في حاجة لرسم ملامح الاشمئناط والاحتقار على وجهي، فقد انبعثت لوحدها حين رأيت أن حمام الشقة شديد الضيق والقذارة، وما زاد وغطى أن بابه الخشبي تم خلعه من مكانه وسنده على أحد حوائط الحمام، وحين انبعثت مني شخرة استنكار واجبة للمشهد، قابلها حسن بضحكة عريضة لزجة، كانت مدخلاً مهماً لفهم شخصيته، ثم قال لي إن حادثاً مفاجئاً حصل بالأمس فقط للباب، وأنه سيطلب من النجار الذي يعمل في تشطيب شقته أن يمر لإصلاحه في الغد أو بعد الغد على أقصى تقدير، ولأن الحمام يقع في منتصف الممر الطويل الضيق الذي يصل الشقة ببعضها، سيكون من السهل في رأيه على من يفكر في الدخول إليه أن يعرف ما إذا كان أحد موجوداً فيه من رؤية نور الحمام، كما أن أي حركة نحو الحمام ستكون مسموعة لمن بداخله، وحينها سيسارع لتنبيه القادم إلى وجوده، أما بالنسبة للاستحمام فيمكن أن يتم الاتفاق على مواعيده بيننا مسبقاً، "ده إذا حبك أوي يعني"، كما قال ضاحكاً ليؤكد أن إدراكي للزوجة ضحكته لم يكن مرتبطاً بقرفي من الحمام وبابه، بل كان توصيفاً دقيقاً لطبيعة ضحكته.

لم يأكل معي الكلام الذي سمعته، فمددت يدي لأختبر إمكانية إعادة الباب إلى مكانه دون انتظار النجار، فتوتر حسن من حركتي المفاجئة، ولم يطل استغرابي من توتره، فقد مرق برصان على الأقل ـ ربما خدعني النظر وأغفلت ثالثاً ـ من داخل تجويف في أسفل الباب وهربا إلى مكان ما لم أتبينه في الحمام، فقد طوّحت بالباب بعيداً فور رؤيتهما، واندفعت جارياً نحو باب الشقة الذي كان محمود واقفاً إلى جواره يحاول فهم جريتي المذعورة نحوه، ليلحق بي حسن ويمسك بيدي طالباً مني أن أهدأ وأدع له فرصة للشرح وتصحيح الموقف، وهو ما بدا لي إصراراً غير مفهوم على سكني في الشقة، لأنه ليس محتاجاً إلى هذه الدرجة لكي أقاسمه إيجار الشقة الذي لم يكن عالياً، ثم قرر أن ينزل بعرضه الذي ظن أن مقاومته ستكون أمراً صعباً علي، حيث قال إنه سينتقل هو وأمه إلى الغرفتين الأصغر، وسيتركان لي الغرفة الواسعة الأفضل تشطيباً، وأنه كان يتصور أنني سأحب فكرة الإقامة في الغرفة التي يوجد بها بلكونة مطلة على الشارع، لكن إذا كان يريحني أن أقيم في غرفتهما الواسعة والتي يوجد بها شباك يطل على منور البيت الذي لم أكن أتصور أن له منوراً، فليس لديه أي مشكلة، وحين أشار بيده إلى الغرفة محل الإغراء، كانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها أمه وهي تقف في عمق الكادر، وقد أسندت ذراعها على الباب مراقبة الموقف، وحين وقعت عيني في عينها، بادرتني بابتسامة عريضة طيبة، فدفعتني للخجل من نفسي لأنني يمكن أن أهدد استقرار هذه السيدة وأنتزعها من غرفتها الواسعة لأقذف بها نحو غرفة أصغر، حتى وإن كانت مطلة على الشارع، فهززت رأسي محيياً إياها ومبتسماً لها، ثم قلت لحسن إنني ليس لدي مشكلة مع الغرفتين اللتين يعرضهما علي، خصوصاً أن مسألة البلكونة مهمة بالنسبة لي في المذاكرة، لكنني لا يمكن أن أتسامح مع حالة الحمام المزرية، وخصوصاً مع ما فيه من أبراص، لأن الأبراص تصيبني بالقرف والخوف، ولي منها موقف يرتبط بذكريات سابقة لا أريد أن أخوض فيها الآن.

عاد حسن إلى ضحكه العريض اللزج قائلاً إنه لم يكن يتخيل أنني يمكن أن أخاف من الأبراص وأنا رجل طول بعرض، لكنه مع ذلك يتفهم موقفي ويعدني بالقضاء عليها على الفور، لأستلم منه الحمام في الغد وهو في أفضل حال، وإلا فمن حقي أن أنصرف على الفور، وسيساعدني في لم حاجاتي مثلما ساعدني على المجيئ بها، وقبل أن أنطق بكلمة، وجدته يأخذني من يدي بعشم، ويمشي بي خطوتين نحو أمه وهو يعرفها علي قائلاً بضحكة أعرض وألزج: "ده بقى خلاص ابنك الرابع يا ست ماما"، ولم أكن أعلم وأنا أسلم عليها، أن نظرات الفرحة التي كست وجهها حين رأتني، وعبارات الترحيب التي كانت تطلقها، لم يكن وراءها الفرحة بما لشخصي من مميزات، بل كانت فرحة بوجودي ذات نفسه أياً كان كنهي وسلوكي، لأن ذلك يعني أنها لن تظل وحيدة في هذه الشقة الموحشة، حين يسافر حسن إلى السعودية بعد شهر لكي يستلم وظيفة الأحلام التي ستسارع في إتمام زواجه، وأن سكني معه لم يكن حلاً لأزمتي أنا فقط، بل حلاً أهم لأزمة ضميره الذي كان سيوجعه حين يترك أمه وحيدة في الشقة، لكنه لم يكن يعرف أنني لن أكون فقط شريك سكن أمه، بل سأكون المسئول الأول عنها في ظروف مأساوية غرائبية.

...

نكمل الحكاية الأسبوع القادم بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.