المازني وشهوة القراءة

المازني وشهوة القراءة

09 مارس 2020
+ الخط -
على طريقته الساخرة، يأخذنا إبراهيم عبد القادر المازني في رحلة ماتعة، رحلة يخيّل إلى كاتب هذه السطور أنها لم تخلُ من خيال، لكن رمزيتها بديعة، ولا سيّما في عصرٍ تراجعت فيه القراءة لصالح مقاطع الفيديو وعدد المشاهدات؛ فأمسى القراء معدودين على أصابع اليد الواحدة!

يقول المازني: "وتزوجت، وفي صباح ليلة الجلوة دخلت مكتبتي ورددت الباب، وأدرت عيني في رفوف الكتب؛ فراقني منها ديوان شيللي فتناولته وانحططت على كرسي، وشرعت أقرأ ونسيت الزوجة التي ما مضى عليها في بيتي إلا سواد ليلة واحدة، وكانوا يبحثون عني في حيث يظنون أن يجدوني، في الحمام وفي غرفة الاستقبال وفي المنظرة، حتى تحت السرير بحثوا، ولم يخطر لهم قط أني في المكتبة؛ لأني عريس جديد لا يعقل في رأيهم أن يهجر عروسه هذا الهجر القبيح والفاضح".

ولم نتأكد من وقت كتابة هذا المقال، إذ إن المازني تزوج مرتين في حياته، وقد توفيت زوجته الأولى في أثناء الولادة، وذلك على يد طبيبٍ مخمور، وترك ذلك في نفس المازني ألماً وحسرة، وجلد نفسه مراراً، إذ ترك زوجته بين يدي طبيب سكران؛ فقضى عليها في زهرة شبابها. هذا الموقف كان من جملة مواقف أثرت في أعصاب المازني، واقتادته لسُكنى المقابر عاماً بطوله، وخلال تلك المدة زار تلك المقابر سراً سعد زغلول، وقابله المازني بالصدفة البحتة، وتحدث إليه في مسألة، استخرج بها سبقاً صحافياً استحق عليه المكافأة.


وبعد وفاة زوجته الأولى، عزف المازني عن الزواج حتى أقنعته أمه بتكرار التجربة، وقد كان لها ما أرادت، وتزوج ابنها للمرة الثانية. من ذلك، ندرك أن الحادث المقصود هنا ربما كان في الزيجة الثانية، فلن يقبل عاقل أن يترك ليلة العمر ليقرأ، هذا مستبعدٌ بالجملة، لذلك ربما كان الرجل قد قضى وطره في الزيجة الأولى، لكنه عاف اللقاء الحميمي مؤقتاً إبان الزيجة الثانية.

ونواصل مع المازني، فيقول: "وكانت أمي في المخزن تعد ما لا أدري لهذا الصباح السعيد فأنبؤوها أني اختفيت، كأنما انشقت الأرض فابتلعتني! وأنهم بحثوا ونقبوا في كل مكان فلم يعثروا لي على أثر؛ فما العمل؟! فضحكت أمي وقالت: ليس في كل مكان، اذهبوا إلى المكتبة، إنه لا شك فيها؛ فقالت حماتي وقد ضربت صدرها بكفها: في المكتبة؟ يا نهار أسود! هل هذا وقت كتب وكلام فارغ؟ فقالت أمي بجزع: اسمعي! كل ساعة من ساعات الليل والنهار هي ساعة كتب، افهمي هذا وأريحي نفسك؛ فإن كل محاولة لصرفه عن الكتب عبث".

انزعاج حماته هذا مبرر جداً، ووصفها للمكتبة وللكتب "بالكلام الفارغ" مستساغ؛ فإن شيئاً لا يُقدَّم على ليلة العرس، وإن وجدتَ عاقلاً يقول غير هذا لارتبتَ في أمره، لكن المازني يرسم لنا بعذب خياله علاقته (الحميمة) بالكتب، ومدى انكفائه عليها وإقباله على مطالعتها، زاهداً لأجلها في أشياء لا تُفوّت، ويؤكد ذلك بقوله في موضعٍ آخر: "وكانت زوجتي تقول إلى آخر أيامها - رحمها الله - ليس لي ضرة إلا هذه الكتب".

واليوم، مع ظهور موضة الكتابة لأجل الكتابة، قياساً على مبدأ الفن لأجل الفن - وما تبعه من أعمال رخيصة وسخيفة - يتعين علينا التفرقة بين أزمة الكتاب وأزمة القراءة؛ فالكتب مكدسة في دور النشر والمكتبات، وقد يسمع المرء في مجلسٍ عن كتاب ما، فيبادر باحثاً عنه ويضمه إلى مكتبته، بل ويفتخر بين الناس بأنه اشترى الكتاب، وأن مكتبته تضمّ أنواعاً فاخرة ونادرة من الكتب والمخطوطات؛ فإن سألته عن الأفكار الرئيسة في الكتاب أو القضية التي يعالجها، انقلب إليك بصرك خاسئاً وهو حسير!

إذن النشر ليس بالإشكالية الكبرى، بينما الإقبال على القراءة هو التحدي الأكبر، وتربية الأبناء على حب القراءة الفعالة، أما مجرد سرد أرقام الكتب المنشورة وعدد دور النشر فلن يغيّر شيئاً. أخبرني صديق أنه ذهب إلى بعض دور النشر، وطلب إليهم أن ينشروا كتاباً، وبعد أن أعجبتهم الفكرة والمحتوى، سألوه بالحرف الواحد: "كم عدد متابعيك على منصات التواصل؟"، ولمَّا كان صاحبنا على شاكلتنا، يتابعه عشرة أشخاص أو أقل، غضّت الدار الطرف عن نشر كتابه، وتذرعت بأنها تنشر لمن لديه جمهور من المتابعين، ويُحتمل أن يشتروا الكتاب، أما الأفكار والمبادئ، فقد نشرها من قبل عدد كافٍ من الكتّاب والمفكرين!

غريزة القراءة تشجع المرء على الاستزادة من المعرفة، ثم إذا به يستشعر الأثر الإيجابي للمعرفة والقوة التي اكتسبها؛ فيتمسك بالقراءة وتتربى في نفسه عادة القراءة، بل ويتحول إلى داعية وسفير للقراءة، ومن أمارات تلك السفارة أن يعرض عليك ثمرة قراءاته، وأن يحيلك لقراءة كتاب تنتفع بها، وأن يفك لك ألغازاً التبست عليك، وألا يتعصب لمذهب أو أسلوب في الفكر أو الآداب والفنون.

هذه الفئة من سفراء القراءة تجدهم على موقع "غود ريدز" مثلاً، يناقشون ما قرأوه بعقلانية دون تعصب، ومحاولتهم يغلب عليها الإقناع والتدليل وتقديم الحجج وتفنيد ما يرونه غير جديرٍ بالانتشار. أمثال هؤلاء يقوّضون بنيان دور النشر القائمة على فكرة "الفانز"، ويدعمون الأفكار التي تستحق البقاء، لا يسعون إلى مكاسب مادية وإنما يشغلهم تقديم مواد مفيدة، يرشحون لك ما يرون أنه جيد. في الوقت نفسه، يجدر بك أن تخوض غمار التجربة، وألا تجعل منهم مصدرك الأوحد لانتقاء الكتب؛ فإنهم رجال وأنت رجل، أو إنهن نساءٌ وأنتِ امرأة.

صحيح ما يقال عن بعض الأدباء، بخصوص أنه يجنّد أصدقاءه ومقربيه للحديث عن أعماله، لكن المجال مفتوح للجميع، والكل يعرض رأيه وفق رؤيته ومدى إفادته؛ فلا تزهد في المسألة جملة وتفصيلاً، ولا تنغمس فيها بكليتك، وابتغِ بين ذلك سبيلاً. قديماً قالت الحكماء: "ما نظر رجلٌ في كتاب إلا خرج منه بفائدة"، والفائدة إما أن تسمع بها للمرة الأولى، أو تثبّت عندك معلومة قديمة وتؤكدها، وربما أزالت التباساً أو فتحت طريقاً جديداً، أو أنها فائدة للتسرية عن النفس وتجديد النشاط، وأنت في يومك وليلتك بحاجة إلى أطياف شتى من هذه الأصناف.