إوعى وشّك حرفياً (2/2)

إوعى وشّك حرفياً (2/2)

09 مارس 2020
+ الخط -
لم تتبع كاتبة (لوس أنجلوس تايمز) أسلوب الهرم المقلوب في صياغة ما كتبته عن أضرار لمس الوجه في زمن تفشي الفيروسات، ولم تضع العلاج الناجع في البداية، بل قررت أن تبدأ بتذكير القارئ اللاهي عن خطورة هرش وجهه، بكم المصائب التي يمكن أن يقع فيها بسبب ذلك الفعل البسيط، وبعد أن سردت طائفة منتقاة من الأمراض التي تنتج عن دخول الفيروسات إلى الجسم عبر منافذ الوجه، أخذت تستعرض بعض الأدبيات العلمية في الموضوع والتي اتضح أنها أكثر مما توقعت، وكان على رأسها دراسة أجريت على طلبة في كلية الطب خلال حضورهم في قاعات الدراسة، واكتشفت أنهم قاموا بلمس وجوههم 23 مرة في الساعة على الأقل، في الوقت نفسه، وجدت دراسة أخرى أجريت على طلبة شاركوا في امتحان مجهد ذهنياً، أن لمس الوجه يشكل رغبة في مقاومة السرحان ونقص الانتباه، حيث لوحظ أن لمس الطلبة لوجوههم يزيد كلما شعروا بأنهم على وشك التشتت ورغبوا في التركيز من جديد.

يرى الدكتور أوتو يانج خبير الأمراض المعدية بجامعة كاليفورنيا أن ما يزيد من خطورة لمس الوجه أنه أمر مرتبط بالطبيعة البشرية، لأننا حين نشعر برغبة ملحة في لمس وجهنا أو هرشه، لا يرتبط الأمر بوجود سبب بيولوجي لذلك، بل بوجود مشاعر سلبية لدينا، وهو ما تؤكده دراسة ربطت لمس الوجه بالشعور بالفشل في تحقيق الأهداف أو عدم الرضا عن النفس، ولذلك يساعد لمس الوجه على التعامل مع القلق والتوتر ويريحنا بعض الشيء، لكن تلك الراحة ستزول قطعاً، حين نتذكر الآثار السلبية التي قد تترتب على ذلك خصوصاً في أيام سوداء كالتي نعيشها الآن.

تذكرنا الكاتبة أن خطورة لمس وجوهنا تزداد لأن أغلب ما نلمسه حولنا قذر وملوث، وبالأخص هواتفنا المحمولة الأقرب إلينا من حبل الوريد، والتي نلمسها طول الوقت دون أن نغسل أيدينا، ولكي تدعم كلامها بالدراسات فلا يظن القارئ أنها تعمل من الحبة قبة، أشارت إلى دراسة إيرانية أجريت على الهواتف المحمولة للعاملين الصحيين، فاكتشفت في غالبيتها العظمى مستعمرات مهولة من البكتيريا، وبالتحديد اتضح أن 93 في المائة من تلك الهواتف مليئة بالجراثيم، وقبل أن تسارع إلى حمد الله لأنك لا تعمل في مجال الصحة، تعاجلك الكاتبة بأن الدراسة المحكّمة أجريت أيضاً على الهواتف المحمولة لغير العاملين في مجال الصحة، فوجدت أن 58 في المائة منها منازل للميكروبات، ومع أنها لم تشر إلى تاريخ إجراء الدراسة، وهل سبقت الانتشار الوبائي لفيروس كورونا في إيران أم أعقبته، لكنها شددت على أهمية تغيير طريقة تعاملنا مع الهواتف المحمولة، لأنها أخطر مما نتصور.

ما يزيد الأمر تعقيداً أن بعض الفيروسات يمكن أن تستمر في البقاء لأيام على الأسطح في حالة استعداد دائم للانتقال إلى أيدي من يلامس تلك الأسطح، والدخول منها إلى جسده، وهو ما أثبتته دراسة نشرتها مجلة طبية متخصصة في دراسات العدوى داخل المستشفيات، أثبتت أن فيروس الأنفلونزا بقي موجوداً لفترة على الأسطح الصلبة في غرف من تم إسعافهم للعلاج من تأثيرات الأنفلونزا، وأن الفيروس ظل موجوداً لفترة في "ماوسات" الكمبيوتر وأعمدة الأسرة وعلى الكنبات والملابس، وفي إحدى الحالات قاوم الفيروس وظل حاضراً على السطح حتى بعد تنظيف الغرفة وتركها فارغة لمدة 72 ساعة قبل أن يتم اختبارها من جديد، كما وجدت دراسة أخرى أجريت على مراكز رعاية الأطفال أن نصف الأسطح التي تم اختبارها كانت ملوثة بفيروس الأنفلونزا، بما فيها الألعاب والدمى، بسبب انتقال الفيروس إليها من المخاط الذي يسيل من أنوف الأطفال المصابين ويعتبرون مسحه بأيديهم ونشره في كل مكان حولهم من رياضاتهم المفضلة.

لا تدع الكاتبة فرصة للذين يتصورون أن طريق السلامة يمر عبر ارتداء الكمامات والأقنعة، فهي تنبههم أنها في النهاية لا تحميهم بالضرورة من لمس وجوههم، لأن كثيراً منهم حين يرغب في هرش وجهه أو أنفه يفعل ذلك بعد إزالة الكمامة، وهو ما يجعل وجودها لا قيمة له، وأن البعض يأخذ حذره فلا يقوم بهرش أنفه، لكنه يقوم بدعك عينيه ويتصور أنه آمن من الإصابة بالفيروس، مع أن الفيروسات لا تجد فرقاً في الدخول إلى الجسم بين الفم والأنف والعينين، ولا أخفيك أنني حمدت الله أنها لم تقل والأذنين أيضاً، لتترك لنا هدفاً في الوجه يسهل هرشه، ومن يدري ربما تكون قد نسيت الإشارة إليهما، أو أنها لم تجد دراسة تنبه إلى خطورة هرشهما.

بعد هذا الاستعراض المفصل والمزعج لخطورة لمس الوجه في أيام الانتشار المكثف للفيروسات، طرحت الكاتبة السؤال الذي تأخرت في الإجابة عليه: "ما الذي يجب أن يفعله البشر لكسر عادة لمس الوجوه؟"، مؤكدة أن كسر هذه العادة لن يكون أمراً سهلاً، وأن بعض الأفكار التي ستطرحها لكسر هذه العادة ستبدو للبعض غريبة، لكنها نبهت إلى أن ذلك ليس مستحيلاً، بدليل أن غالبية البشر نجحوا في التخلص من عادات كانت طبيعية وأصبحوا يرونها الآن مقرفة مثل اللعب في المناخير، مستشهدة بكاتب اسمه مارتن جرنوالد يعمل أستاذاً بجامعة لايزيج في ألمانيا، اتضح أنه خبير متخصص في موضوع التعامل مع الوجوه، وألف فيه كتاباً بعنوان Homo Hapticus وهو يتفق مع الكاتبة على أن التوقف عن لمس الوجه يحتاج إلى تدريبات مكثفة للتحكم في النفس، لكنه يرى إمكانية النجاح في الحد منه، بدليل أن السياسيين تعلموا مع الوقت أن يتحكموا في التعامل مع أنوفهم خلال الجلسات العامة لكي لا تصطادهم عدسات الكاميرات.

حين قرأت الأفكار التي تقترحها الكاتبة لكسر عادة لمس الوجوه، فهمت لماذا احتفظت بها حتى نهاية موضوعها، لأنها لو كانت قد وضعتها في بدايته لما أكمل الكثيرون قراءة ما كتبته، لأن أفكارها تنتمي إلى سكة "دع القلق وابدأ الحياة والكنز في الرحلة والختم في الدرج" وغيرها من شعارات التنمية البشرية المنمقة والمستفزة في لحظات الأزمات، فهي توصيك مثلاً بأن تحرص على أن يكون ذهنك حاضراً قبل أن تلمس وجهك، وأن تحرص على الإمساك بنفسك قبل أن تهم بفعل ذلك، ولو أمسكت نفسك وأنت على وشك لمس وجهك، عليك أن تفعل شيئاً بقبضة يدك فوراً، ولكي أساعدها على شرح تلك الفكرة، سأقترح عليك أن تشير باصبع يدك الأوسط إلى من يتصور أن تطبيق النصائح أمر سهل.

ما وجدته مفيداً بالفعل في أفكار كاتبة (لوس أنجلوس تايمز) هو أنني عرفت أن هناك قطعاً معقمة مجهزة لهرش الوجوه، تقترحها الكاتبة عليك إذا لم يتح لك أن تغسل يديك قبل الهرش دون هرّاشة، لكنها توصيك حينها بغسل يديك بعد الهرش أيضاً، وأن تجعل المناديل المعقمة والمليئة بالكحول رفيقاً لك، وتستخدمها في مسح هاتفك المحمول من الجراثيم بانتظام، مع مراعاة أن تلك المناديل قد تقتل بعض الفيروسات وليس كلها، لكن الخبر السعيد يقول إنها يمكن أن تقتل فيروس الكورونا الجديد، لكنها تقترح عليك خلال فعل ذلك أن تلبس قفازات مثل القفازات المعدة للتعامل مع الأطعمة، والتي قد يؤدي وجودها في يدك إلى مساعدتك على التخلص من عادة هرش وجهك.

وإذا كنت قد شعرت أن الكاتبة منفصلة عن الواقع المعقد الذي نعيشه، وهو ما يجعلها تقترح مثل هذه الاقتراحات المفرطة في المثالية، تقول لك الكاتبة في ختام حديثها أنها تدرك صعوبة مخاصمة يدي الإنسان لوجهه، لكنها توصيك بألا تجعل ذلك يحبطك ويثنيك عن الاستمرار في تغيير عاداتك، خاصة أن العلم حمل بالفعل بشرى سارة للذين يعيشون حياة بلا لمس للوجوه، حيث أثبتت دراسة أجريت على سكان مقاطعة فوجان الصينية، أن الذين غسلوا أيديهم بقوة وكانوا نادراً ما يلمسون وجوههم وأخذوا تطعيماً من الأنفلونزا، كان خطر إصابتهم بالفيروسات منخفضاً، لأن أغلب إصابات الإنفلونزا نشأت بسبب لمس أسطح ملوثة بالفيروس ثم وضع الأصابع في الفم والأنف والعينين.

يبقى أنني بعد أن انتهيت من القراءة المتأنية الآملة في ما وعدني به العنوان، اكتشفت أن المقال الطويل العريض لم يخرج عما لخصته لي بائعة النظّارات التريندادية في ست كلمات أبرك من مائة: "اغسل يديك قبل أن تلمس وجهك"، والتي يفترض أن أجدها بالفعل معلقة خلفها حين أذهب لاستلام النظّارة، وهو ما يدفعني لأن أقترح عليك أن تصنع لنفسك لافتة وتضعها بالقرب منك، لعلك كلما فكرت في هرش وجهك تتذكر كلماتها التي تنبهك إلى أن "لمس الوش ما فيهوش معلهش".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.