حفلة ضرب جماعية لمحتال

حفلة ضرب جماعية لمحتال

07 مارس 2020
+ الخط -

عندما يأتي الحديث في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" الإسطنبولية عن الاحتيال يضحك أبو الجود بشكل جميل ومبهج. آخر حكاية سمعها، كانت من العم "أبو محمد" الذي روى لنا تفاصيل حكايته مع التاجر الحلبي النصاب الذي هرب مع سكرتيرته بعدما صار في حوزته من إيرادات الاحتيال ما يقارب خمسين مليون ليرة سورية (هذا المبلغ كان يعادل في تلك الأيام أكثر من مليون دولار). 

من شدة الضحك صارت دموع "أبو الجود" تطفر من عينيه، وكنا ننتظر حتى يتوقف عن الضحك ويمسح دموعه لنعرف السبب، سيما وأن أبو الجود قلما يضحك، فهو أقرب بالشبه إلى عادل إمام في مسرحية "الواد سيد الشغال" حينما كان يرتجل جملاً يجبر بها عمر الحريري ومصطفى متولي على الضحك، ويبقى هو صامداً لا يضحك. 

قال له أبو جهاد، وهو معتاد على مناكفته: 

- إن شاء الله تكون ضحكة عنزة في مسلخ. ما بدك تبطل بياخة وتحكي لنا ليش عم تضحك؟

قال أبو الجود: حاضر، راح إحكي. أنا بصراحة عم إضحك لأنه كلما انفتحت سيرة الاحتيال قدامي، بيقول المتحدث: فلان محتال ونصاب حاشاك يا أبو الجود! من شي خمس سنين، نزح واحد محتال من سورية إلى تركيا، وقعد في مدينة تركية زغيرة وبلش ينصب أفخاخ للنازحين، وبعد مدة تبين إنه آخد من الفقرا والدراويش السوريين مدخراتهم، ومقدم لهم وعود إنه يعطيهم عليها أرباح، وبعد مدة أعلن إفلاسه، وأخد شي عشر ملايين دولار.. بس على فكرة هادا النصاب ما كان عنده سكرتيرة حتى يتجوزها.

قال أبو جهاد: وهادا الشي بيضحك؟

قال أبو الجود: لأ، ما بيضحك، لكن الشي الغريب إنه كل واحد بيشوفني بيمدحني وبيقول: أخونا أبو الجود رجل كويس ومحترم، وبعمره ما حدا نصب عليه، ولا هو نصب على حدا. هادا الشي صحيح، بس في إله أسباب، أول شي، ما حدا احتال علي لأني ما معي مصاري أودعهم مع حدا. وتاني شي، في أشخاص بيتعرضوا للاحتيال وما بيذيعوا الأمر بين الناس، يعني في مئات الألوف من عمليات الاحتيال اللي صارت لكن ما حدا سمع فيها. وتالت شي أنا ما بحتال على حدا، صح، بس مو لأني شريف ومحترم، ولكن لأن ما حدا بيوثق فيني. يعني إذا هلق بقول للموجودين هون، عطوني مصاري حتى أعمل مشروع تجاري، ما حدا راح يصدقني، لأني بعمري ما تعلمت شغل التجارة ولا الصناعة ولا الزراعة.. يعني باختصار الاحتيال اختصاص صعب، وبيحتاج لنوعية معينة من الناس، وأنا مو قادر أكون محتال.

قال كمال: كل شي حكاه أبو الجود حلو، وصحيح، ومهم. عن جد شي مدهش. بس فعلاً ما بيضحك.

قال أبو جود: أنا موافقك أستاذ كمال، بس أنا تذكرت حادثة قديمة، وصرت إضحك على حالي. 

قال أبو محمد: احكي لنا عن الحادثة لنشوف.

قال: حاضر. في يوم من الأيام كنا أنا وأبو مكارم قاعدين على بيدر الضيعة، وخرمانين على سيجارة، وتنيناتنا ما معنا سجاير، ولا في معنا مصاري. وفجأة مر من قدامنا واحد شحاد مجنون اسمه "بربورة". لما شافُه أبو مكارم نادى عليه، وسأله: 

- ولاك بربورة ما معك سيجارة؟ 

فنط بربورة لفوق وصار يحمد الله إنه ما بيدخن، لأن الدخان بيقصر العمر. فضربه أبو مكارم بفردة الشحاطة وقال له: 

- خايف على روحك يا جحش المازوت؟ يخرب ديارك إذا بتعيش سنتين زيادة أو سنتين ناقص مين فارقة معه؟

في هاي اللحظة أنا خطرت لي فكرة. هي بصراحة فكرة احتيال. هاي لحتى تعرفوا إني أنا ما عندي مانع أكون محتال.

قال أبو جهاد: تضرب إنته واللي علمك الاحتيال، ما لقيت تحتال غير على واحد مجنون؟

قال أبو الجود: المحتالين يا أبو جهاد طول عمرهم ما احتالوا على إنسان عاقل. لأنه العاقل ما بيسمح لهم بهالشي. المهم، بعدما مشي بربورة عرضت فكرة الاحتيال اللي خطرت في بالي على أبو مكارم.. قلت له: 

- أشو رأيك نمشي ورا بربورة من هلق لحتى ينتهي من الشحادة، ونضربه كم شحاطة على وجهه ونشلحه المصاري اللي شحدها ونشتري فيهن سجاير؟ 

انبسط أبو مكارم وشقرق وقال لي: والله فكرة عظيمة. بس هادا بيشحد شي قليل، يمكن كل الغلة تبعه ما تشتري لنا علبة سجاير واحدة. 

قلت له: وأيش الحل برأيك؟

قال لي: تعال معي.

ومشينا أنا وهوي في رحلة بحث عن بربورة، ولما لقيناه أخدناه من إيده ومشينا.. وأنا عم أفكر: يا ترى أيش في براس أبو مكارم؟ لحتى وصلنا على بيت ابنه لأبو مكارم، دق الباب، فتح لنا إبنه. قال له: يا إبني وصلنا بسيارتك على الضيعة (سين). قال له: أمرك.

وطلعنا أنا وبربورة وأبو مكارم بسيارة الإبن، ولما وصلنا ع الضيعة سين، قال أبو مكارم لإبنه: روح إنته ما عاد بدنا منك شي.

وبعدما راح الإبن. أبو مكارم أجبر بربورة إنه يقعد ع الأرض، وطلب منه ما يحكي ولا كلمة. والتفت علي وقال لي: بدي شطارتك يا أبو الجود. هلق أنا وإنته بدنا نساوي حالنا زعلانين، وإذا بتحسن تبكي بيكون أحسن.. وبدنا نحكي للناس عَ المصيبة اللي حلت بهالإنسان الطيب بربورة، وكيف إنه زوجته طلع معها سرطان، وبدهم يستأصلوا ثديها، وطلبوا منه مصاري، وهوي شوفة عينكم فقير ومعتر وما معه فرنك سوري واحد، ونحنا وأهل الخير عطيناه شوية مصاري، على حسب إمكانياتنا، ولسه ناقصه شي ميتين ليرة، ويا ريت كل إنسان يدفع المبلغ اللي بيطلع من خاطره لحتى نساعد هالإنسان ويستأصل بز زوجته.

الحقيقة إنه الخطة مشيت بشكل ممتاز، وبلشنا نجمع مصاري، والناس التمت حوالينا، وكل شي تمام.. وفجأة بربورة انفلت بالضحك. أبو مكارم مد إيده وسكر تمه، لكن بربورة بعد إيده وصار يتضحك ويقول: 

- مرتي مرتي مرتي، بدهم يشيلوا لها الثدي. أي والله معقول. بس أنا ماني متزوج، ماني متزوج، بعمري ما تزوجت.. اسمعوا مني لا حدا يتزوج، الزواج بيقصر العمر!

قال أبو الجود: وأكيد بتتخيلوا أيش صار فينا أنا وأبو مكارم. الله وكيلكم ضربونا ضرب بلا شفقة.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...