ما بعد سقوط الكومبين (16)

ما بعد سقوط الكومبين (16)

05 مارس 2020
+ الخط -
مثلما كان مؤمن سبب المشكلة التي تسببت في قرار طردنا من الشقة، كان جزءاً من الحل المفاجئ، وبغضِّ النظر عما إذا كان قد بادر إلى إيجاد الحل لإحساسه بالمسئولية عما جرى، أم أنه فعل ذلك تحت ضغط معنوي، أم أنه سعى إلى الحل لكي يحرجني ويسجل عليّ بُنطاً، فالمؤكد أنه يُشكر في كل الأحوال.

كنت يومها قد أغلقت باب غرفتي عليّ، وبدأت أنا ومحمود الصعيدي في تستيف كتبي في كراتين، أما ملابسي فقد كانت تملأ حقيبة واحدة بالكاد. كانت حركة عبثية بامتياز، لأنني لم أكن قد وفّقت في العثور على مطرح بديل، مع أن ثلاثة أيام فقط كانت تفصلني عن أول الشهر، موعد إخلاء الشقة طبقاً لفرمان الحاجّة أم عادل، ولكي تدرك مبلغ يأسي في إيجاد أي حل مهما كان منحطاً، يكفي أن تعرف أنني ذهبت إلى ذهني السمسار، وإذا كنت لا تزال تذكره من حكايات الأيام السوداء التي سبقت أيام أم ميمي الأسود منها، فدعني أهنئك على قوة ذاكرتك التي تشبه قوة ذاكرة المعلم ذهني، لأن العجوز الأشرّ تعرف علي فور أن رآني، وبادرني بحضن يليق بأصدقاء قدامى، ولكي يؤكد أنه يعرفني فعلاً ولا يشبّه عليّ، بادرني بالسؤال عن ماما وأحوالها، ومع أنني سعيت لطمأنته في البداية أن مجيئي إليه، لا علاقة له بالعربون القديم الذي "أكله الوبا" دون شك، إلا أنه قال بمودة إنه كان يتمنى أن يخدم "مش عشانك لكن عشان ماما"، لكنه أكد أنني في وقت كهذا لن أجد لدى أي سمسار مهما كانت شطارته، خُرم إبرة في القاهرة الكبرى وضواحيها، ووعدني أن أكون على قائمة أولوياته، حين يتغير الوضع بعد أقل من شهرين ويترك الطلاب المغتربون شققهم عائدين إلى أهاليهم، وحين رأى ملامح الهزيمة تكسو وجهي، طبطب عليّ وقال لي إنه يرحب بي ضيفاً لليلة أو ليلتين في شقته، لأن أم العيال في زيارة عائلية طارئة إلى بلد أبيها، لكن نظرة سريعة إلى وجهه الملتبس كانت كافية لكي أنهي القعدة بشكره، ثم أولّي منه فراراً.

وقتها، لم تكن صداقاتي بكثير من ابناء دفعتي قد توثقت، لكي أشركهم في حل أزمتي، فلم أكن وأنا الذي اكتسب "برستيجه" من كونه الأول على دفعته، أحب أن ينظر لي أحد منهم بوصفي الشريد الباحث عن مأوى، في الوقت نفسه لم يكن حظي حسناً مع القلائل الذين أخبرتهم بأزمتي، فقد كانوا يسكنون في أحياء متروسة بسكانها، ليجيئ الحل في النهاية على يد أقرب أبناء دفعتي إلى قلبي، ناجي عوض الذي كان سبب معرفتي بعمرو فلنّكة، مع أنني كنت قد نبّهت عليه ألا يأتي بسيرة ما جرى لعمرو، لأنني كنت محرجاً منه ومن أمه، لأنني لم أتمكن من تنفيذ وعدي السابق لهما بزيارتهما من حين لآخر، ولذلك استعيَبت أن ألجأ إليهما فقط حين يكون لدي أزمة، مع أنني كنت متأكداً أن أم عمرو لن تتأخر في طرد عمرو من الشقة ليبات عند أحد أعمامه، لكي تخلي لي مكاناً أبات فيه، لكنني لم أرغب في استغلال جدعنتها، لذلك فضلت أن أبدأ في حزم كتبي وملابسي، في انتظار نداء أبلة عزيزة التي أكدت لي إن الحصول على شقة على القد أو غرفة بمنافعها في شبرا الخيمة أمر مفروغ منه، وأنها لا زالت تفاضل بين كذا اختيار، لأنها ترغب أن يكون مكان سكني قريباً منهم بقدر الإمكان، ولكي لا أقع في حيرة تعطلني عن دراستي، حصلت مني مشكورة على تفويض بالاختيار، على أن أتلقى منها اتصالاً في آخر يوم في الشهر، تعطيني فيه عنوان المطرح الجديد، لآخذ إليه تاكسي محملاً بكراتيني وحقائبي، وأبدأ السكن على الفور، مفوضاً أمري لله في شحططة المواصلات التي ستكون أرحم من البرشطة على بيوت الأصدقاء، الذين لن يسمحوا لي بالبيات تحت الكباري أو في الجوامع.


وحين سمعت صوت رزع باب الشقة تحفزت، فلم يكن ذلك من عادات مؤمن مهما كان غاضباً، ودفعني ظني السيئ للاعتقاد أنه ربما قرر أن يرسل لي من هو أوسخ وأضلّ من أقاربه، لكي يحيل أيامي القليلة المتبقية في الشقة إلى جحيم إضافي، لكني سمعت بعدها على الفور صوت عمرو فلنّكة وهو ينهال علي بأقذع الشتائم ويتهمني بالنذالة والوطوّ والتنكر للعيش والملح، وهو ينهال على باب غرفتي ترزيعاً، وحين فتحت الباب وجدته يتقافز أمام الباب ملعِّباً اصبعيه الأوسطين في الهواء، وهو يواصل شتائمه المنتقاة، ومن خلفه مؤمن، ينظر لي وعلى وجهه ابتسامة عريضة غامضة، ومن خلفهما ناجي وهو يهرب من نظراتي المتحفزة كاتماً ضحكاته، ولم تهدأ "أزعرينة" عمرو إلا حين رأى محمود الصعيدي يقف خلفي محاطاً بالكتب والكراتين، وحين عرّفتهما ببعض، سلم عليه عمرو بحرارة، وقال له إنه سمع الكثير من مؤمن عن جدعنته ورجولته، وأنه كان يتمنى عليه أن يقوم بتعليمي بعضاً من تلك الجدعنة والرجولة، لكي ألجأ إلى أصدقائي في ساعة الشدة، بدلاً من أن يعرفوا بمشاكلي بالصدفة.

وقبل أن يجد محمود المتلعثم خجلاً ما يرد به، أشار إليه عمرو بأداء رئيس مجلس إدارة الشقة أن يعيد الكتب إلى مكانها ثانية، ويشوف له صرفة في الكراتين لأننا لن نحتاج إليها خلاص، وقبل أن يترك لي فرصة للسؤال أو التعليق، قال إنه سيسبقني مع مؤمن وناجي إلى قهوة الأهلي والزمالك التي سمع خيراً عن مشاريبها، وأنه سيحكي لنا كل شيء على القهوة، لأنه لن يطيق البقاء في هذا الحُقّ الكريه الذي أستميت في البقاء فيه كأنه أمَلَة، ولأنه أدرك أنه ربما لن يأخذ راحته في مواصلة "تهزيئي" في زحام القهوة، وجّه كلامه إلى محمود، وطلب منه ألا يسيئ فهمه لأنه في حقيقة الأمر مدرس محترم حتى ولو لم يبدُ عليه ذلك، وقبل أن يرد عليه محمود، عاد عمرو لمواصلة تلعيب إصبعيه في وجهي، وإمطاري بحزمة مكثفة من الشتائم، ثم طلب مني تشطيف نفسي قبل النزول إلى القهوة، لأنه لا ذنب له لكي يتحمل رائحة عرقي الطافحة، ومحمود البرئ ابن الناس اعتبر الملاحظة موجهة إليه أيضاً، فأوضح له معتذراً أننا كنا مشغولين من بدري في البحث عن كراتين، ثم في تستيف الكراتين في الكتب، لينظر عمرو إليه مندهشاً، قبل أن يسأله عن المُرّ الذي رماه على صحبة أشكالي، ويلقي نظرة عابرة على الكراتين والكتب، ويخصها بشخرة وداع طويلة، مكرراً رأياً لم يكن محمود قد استمع إليه، عن الكتب البضينة التي لن يفلح شحات مثلي طالما ظل يضيع فلوسي عليها.

كان محمود راغباً مثلي في معرفة ما جاء عمرو لإبلاغنا به، ولذلك استجاب لطلبي ألا يأخذ كلام عمرو بجدية أكثر من اللازم، فقد كان محمود راغباً في أخذ دش سريع قبل الذهاب إلى القهوة، لكنني قلت له إن تشكيك الناس في روائح عَرَقهم و"شراباتهم" من لزمات عمرو المفضلة، فهو ينتمي إلى مدرسة بلديّاته علي الكسار في الكوميديا، وأنه تمادى في مرمطتي، لأنه باغتني متلبساً بالنذالة معه، ولذلك استغل فرصة أنني لن أرد عليه، لكن الحال لن يستمر هكذا، بعد أن أعرف ما الذي يقوله عمرو بالضبط عن موضوع البقاء في شقة الحاجة أم عادل، ونبهت على محمود ألا يفزع حين يرى مواجهتي الكلامية مع عمرو، وأنه سيندهش من أداء ناجي في مواجهات مثل هذه، لأنه لم يره من قبل إلا رزيناً مهذباً، لكنه سيخيل إليه حين يحضر مواجهة يكون عمرو طرفاً فيها، أنه بصحبة مجموعة من الشلحلجية والعربجية، لكنه في الوقت نفسه سيكتشف في ثنايا تلك المواجهات "الأبيحة" جماليات فنية، تحتاج إلى ناقد أريب لكي يقوم بتحليلها واستخراج مواطن الجمال فيها.

في طريقنا إلى القهوة، لم يصدق محمود أن عمر علاقتي بعمرو فلنكة لم يكمل سنة على بعضها، فقد بدا له من الدقائق القصيرة الماضية أننا إخوة في الرضاعة أو أصدقاء طفولة، لكنني قلت له إنه سيفهم المسألة أكثر حين أعرفه على أم عمرو، التي يمكن أن تعتبرها القالب الأم الذي صنعت منه شخصية مثل أبلة عزيزة، وأنه سيُدهش من تشابههما في الشكل والروح والخصال، لكن أم عمرو تتفوق عليها في خفة ظلها الطاغية، ولسانها اللاذع الذي أخذ عمرو منه النزر اليسير، لكنك إن كنت محظوظاً ودخلت قلبها، سخّرت لسانها من أجلك، ورأيت كيف تخفي خلف صخبها المبهج روحاً حنونة مليئة بالخير.

كان ناجي يفسر أداء أم عمرو المدهش معنا نحن أصدقاء ابنها، بأنها تمتلك فائضاً من الأمومة، يزيد عن حاجة عمرو، خصوصاً بعد أن تزوجت أخواته البنات وتركن لها البيت، ومات أبوه متأثراً بالمرض اللعين، لكني حين رأيت ملامح من طريقة تعامل أم عمرو مع جيرانها في بولاق الدكرور، أدركت أن المسألة تتجاوز فكرة الأمومة والرغبة في التبني، وأن لديها فائضاً من الجمال الإنساني، تصرّفه في أشكال متعددة: الأم الحنيّنة على أصحاب ابنها وزوجات بناتها، والست الجدعة مع جيرانها المستحقين للجدعنة، والقادرة على أن توقف الأرازل عند حدهم بجرأتها المدهشة وسوقها الهبل على الشيطنة حين اللزوم، والمبدعة في حلولها المادية لمن ترميهم الحياة في زنقة، والقاضية العادلة القادرة على أخذ مسافة بينها وبين من يقصدونها شاكين محتكمين لتعطيهم كلاماً معقولاً تصعب المكابرة معه، والمبهرة في صناعة الإفيه الذي يلخص الكثير في أقل كلمات ممكنة خصوصاً حين لا تخلو من البذاءة المحسوبة.


بعد ذلك "الإنترودكشن" السريع إلى شخصية أم عمرو، لم يستغرب محمود حين عرف أنها التي كانت وراء حل أزمتي مع الحاجة أم عادل، لاحظ أنني قلت "أزمتي" ولم أقل "أزمتنا"، لأن أم عمرو بحصافتها وخبرتها مع الحياة، قررت أن حل أزمة مثل هذه لن يكون إلا بحق ربنا، وحق ربنا يقتضي أن يتحمل مؤمن مسئوليته عن اختياره الخاطئ لمن يحل محله في غرفته، وألا أدفع أنا ثمن ذلك الاختيار، خاصة أن مؤمن أقر أمامها حين استدعته وقرّرته بأنه كان متضايقاً من طريقة معاملتي له، لكنه لم يحسب أن "قرصة الودن" البسيطة التي فكر فيها ستقلب بغم، لكنه قال لها أيضاً إنه لم يغضب مني، حين قمت ببيعه عند الحاجّة أم عادل، وأنه تحمل المسئولية أمام الوليّة الرِزلة، لكن ذلك جاء بعد فوات الأوان، لأنها اعتبرت أننا اشتركنا في الكذب عليها، فقالت له أم عمرو إن لسانها لم يكن سيخاطب لسانه أصلاً، لولا أنها عرفت بأنه فعل ذلك، فقد كان موقفه بالنسبة لها الحد الأدنى من الجدعنة الذي ترتضيه في أصحاب ابنها، وأنها لذلك تتوقع منه أن يواصل تحمل المسئولية، ويطلب لها أمه في البلد على التليفون حالاً، أولاً لأنها لم تسلم عليها منذ فترة، وثانياً لأنها ستخبرها بما يجب فعله لإنقاذ الواد الغلبان الذي هو أنا من الشحططة في وقت حرج قد يهدد تفوقه الدراسي الذي ينبغي أن يسعى كل من لديه ضمير للحفاظ عليه.

حين قرر ناجي أن يشرك عمرو في الأزمة، بعد فشله في العثور لي على مطرح قريب منه في أرض الجمعية وما جاورها من نواحي إمبابة، لم يكن يظن أن أم عمرو ستمتلك تصوراً شاملاً لحل الأزمة، بل كان فقط يتصور أنها ستتمكن عن طريق علاقاتها المتشعبة من العثور على غرفة مفروشة في محيط الصين الشعبية، كما يطلق على منطقة بولاق الدكرور التي كانت معروفة في تلك الفترة بأنها المهرب المثالي لكل المطاريد، الذين يفشلون في الحصول على سكن في أحياء القاهرة والجيزة، وأنها لن تعدم جاراً يخدمها في توفير غرفة في شارعهم الكائن بمنطقة ناهية، والذي لا يفصله عن شارع السودان إلا شريط السكة الحديد والمزلقان، وهو ما سيجعل وصولي إلى الجامعة أسهل وأسرع من وصولي إليها من إمبابة أو شبرا الخيمة أو غيرها من المناطق التي كان أصدقائي يبحثون لي فيها عن حل.

في صباح واحد تلقت الحاجة أم عادل في شقتها بشارع المحطة بالجيزة، ثلاث اتصالات متعاقبة، الأول من أم عمرو التي اختارت أن تتصل بها في العاشرة صباحاً، لأنه في رأيها أفضل وقت للاتصال بأم مصرية حتى لو كانت من ذوي الأملاك، "أهوه تكون فِطرت وشِربت شايها وقهوتها، وقاعدة في الروقان قبل ما تخش في وجع دماغ الغدا والغسيل وتوضيب البيت، حتى لو كان حد تاني غيرها هيعمله، ما هو وجع دماغ برضه"، وبعد ديباجات التحية والسلام، دخلت أم عمرو في الموضوع بأن قدمت نفسها لأم عادل بوصفها "الست اللي ورا البلوة، اللي رمت في طريقها الواد ناقص الرباية اللي اسمه مؤمن"، فهي المسئولة عن إنجاب عمرو الذي لولاه لما تعرفت أنا على مؤمن الطيب ابن الناس والمبتلى بالفكاكة في نفس الوقت، والذي اقترح عليّ كذبة أنني ابن خالته، التي رأى أنها أريح للدماغ من وجع التفاصيل، والذي ظن أن استقدام أقاربه إلى الشقة سيكون وسيلة لتأديبي على خطئي في ذاته العليا، ومع ذلك فإن أصله الطيب جعله يغرق في الندم على أخطائه، التي سيدفع ثمنها شاب مكافح تلقي أسرته كل آمالها على تفوقه الدراسي الذي يمكن أن يغير مصيره.

كان الاتصال الثاني من أم مؤمن التي كانت مهمتها أسهل بعض الشيء بعد مكالمة أم عمرو التمهيدية، ومما سمعته من تفاصيل، اتضح أن أم مؤمن لم تكن تقل جدعنة عن أم عمرو، لأنها لم تحتج إلى مجهود لإقناعها بضرورة التدخل لإصلاح ما أفسده أبناء بلدتها المنفلتين، والذين لم تربهم أمهاتهم مثلما ربت هي مؤمن، ولذلك وافقت فوراً على الاتصال بأم عادل لكي تبلغها باعتذارها الحار واستعدادها للنزول من الفيوم لاسترضائها إن أرادت، مع التأكيد أنها ستتفهم لو لم تقبل اعتذارها، لكنها في الوقت نفسه ستحتفظ بحقها في زيارتها حين تأتي من القاهرة في أقرب زيارة ممكنة.

كان تأثير أم مؤمن على الحاجّة أم عادل أقوى من توقعات أم عمرو، وهو ما فهمت سره، حين ذهبت لزيارتها في بلدة مؤمن بالفيوم، فأدركت أنني كنت محظوظاً حين ساق الله لي بفضل دعاء أمي، أمهات رائعات مثل أبلة عزيزة وأم عمرو وأم مؤمن، التي لم تكن تقل عنهن لطفاً وجمالاً، وإن كانت تنتمي إلى مدرسة (عزيزة حلمي) في الأمهات، حيث يفيض وجهها بالنور الهادئ المريح للأعصاب، ولا تنطق إلا بالحكمة أو ما يشبهها، وتفضل الابتسامة العريضة على الضحكة العالية، وتحفظ من أدعية إذاعة القرآن الكريم ما لا يشيع ذكره على ألسنة عموم الأمهات، ولا تحب كثرة الأسئلة، وتكره الإلحاح في العزومة على الأكل، ولا تؤمن بالشاي الذي يعقب الأكل مباشرة لأنه يمتص الحديد من الدم.

لكن مهمة أم مؤمن لم تكن ستنجح، لو لم تكن أم عمرو قد تمكنت ببراعة من اقتحام حصون أم عادل الدفاعية، ولأنها كانت قد حرصت على توجيه أسئلة مكثفة إلى مؤمن عن طبيعة شخصية صاحبة العمارة، فقد تخلت على غير عادتها عن الإفراط في الهزار لكي لا تعده الست الكِشرة تباسطاً مزعجاً، وتعاملت معها بوصفها "أم المصريين" التي لا يرضيها أن يقع الضرر على أحد أبنائها، وكانت أم عمرو من الذكاء بحيث نبهت على أم مؤمن ألا تشير في حديثها مع أم عادل إلى سيرة "وقعة الكومبين" مطلقاً، ليتم الحديث عن الخطأ الذي جرى بدون توصيفه، منعاً لتقليب المواجع على الست المحرجة مما جرى لابنتها، كما أنها أكدت على أم مؤمن ألا تتطرق في مكالمتها إلى أي طلبات تخص بقائي في الشقة، ليكون هدف اتصالها الوحيد هو التأكد من قبول أم عادل لاعتذار مؤمن وأمه، قبل أن تختم المكالمة بطائفة منتقاة من أجود أدعيتها التي يكسبها صوتها الخاشع تأثيراً لا يُقاوم.

في الاتصال الثالث والأخير، قالت أم عمرو إنها سعيدة بما سمعته عن قبول ست الكل الطيبة الحنيّنة الحقّانية أم عادل لاعتذار أم مؤمن، وهو ما يؤكد طيبة قلبها وكرم أخلاقها، موحية أن هذا كان المراد من رب العباد، لكنها قبل أن تختم المكالمة سددت عبارة صاغتها بمكر، قالت فيها إنها وبعد أن طابت نفسها لقبول الاعتذار، تعرف أن من حق أم عادل في التصرف في شقتها كما ترغب، فإما أن تقوم بتعميم العقوبة على كل سكان الشقة، أو أن تقصرها على من تسبب في ما جرى، وقبل أن تكمل حديثها، فوجئت بأم عادل وهي تتجاوب معها بإيجابية متوقعة، لكن ما كان مفاجئاً هو طبيعة الحل الذي طرحته، وهو أنها لا تجد مانعاً في بقائي في الشقة، ولكن لوحدي، تقديراً لظروفي الدراسية، وإرضاءً لأبنائها الغاضبين مما جرى مثلها وأكثر، شريطة ألا أسمح بأن يسكن معي أحد في الشقة أياً كانت الأسباب، وألا يتم توقيع عقد بيني وبينها، لكي لا تكون ملتزمة تجاهي بشيئ، ولكي يصبح من حقها طردي من الشقة مع أول غلطة مقصودة أو غير مقصودة، ومع أن أم عمرو لم تكن تعرف كيف سأتصرف في إيجار الشقة الذي أصبح علي أن أدفعه منفرداً، لكنها رأت أن ذلك التنازل سيكون أقصى ما يمكن الحصول عليه من أم عادل، وأن تحملي عناء دفع الإيجار خلال الشهرين المتبقيين من العام الدراسي، سيكون أفضل وأوفر من الانتقال إلى أماكن أبعد، سأدفع فيها في المواصلات كل يوم، أكثر مما سأدفعه في إيجار الشقة التي ستخلو من وجع الدماغ والدوشة وقلة القيمة، وقد كانت أم عمرو محقة فيما رأته.

لم توافق أم عمرو على اقتراح ناجي بإخباري بما أنجزته باتصالاتها السلكية واللاسلكية، لأنها اعتبرت أن غرقي في الخجل حين أعرف ما فعلته لي بدون أن ألجأ إليها، سيكون عقوبة كافية لي، حالفة بالله العظيم ثلاثة أنها ستفعل معي ما لم تفعله مع أعدى أعدائها، وهو طردي شر طردة، لو قررت الذهاب إليها لأشكرها على ما فعلته لي، وأنها بصريح العبارة لا تريد أن ترى وجهي إلا حين تظهر نتيجة العام الدراسي، لتتأكد أنني حافظت على المركز الأول أو الثاني في أقصى تقدير، وحينها فقط ستسمح لطلعتي البهية بتعتيب منزلها، على أن تحتفظ لنفسها بحق تهزيئي إن كان لا يزال لها مزاج لذلك، ومع أنني كنت حسن الحظ حين حافظت على تفوقي الدراسي، بفضل جدعنة أم عمرو، التي كفتني شر الشحططة من شقة خرائية إلى شقة أَخرى، إلا أن حسن حظي لم يكتمل للأسف، لأن ظهور النتيجة المشرفة جاء بعد وفاتها بأيام قليلة.

.....

وللحكاية بقية بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.