تناتيش ونغابيش

تناتيش ونغابيش

01 ابريل 2020
+ الخط -
ـ في الجزء الأول من تاريخه المهم والممتع (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) يروي المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي أن مصر شهدت في أيام عثمان باشا الحلبي وبالتحديد في شهر ذي الحجة من سنة 1147 هجرية الموافق لسنة 1735 ميلادية إشاعة قوية مفادها أن القيامة ستقوم يوم الجمعة سادس وعشرين الحجة، وانتشرت هذه الإشاعة بقوة في يوم الأربعاء رابع وعشرين الحجة، "وفشا هذا الكلام في الناس قاطبة حتى في القرى والأرياف"، فأخذ الناس يودعون بعضهم بعضاً، وقد تأكدوا من حلول نهاية العالم، حتى "يقول الإنسان لرفيقه بقي من عمرنا يومان"، لكن ردود أفعال الناس كانت مختلفة في استقبال الحدث بشكل يصفه الجبرتي في سطور تمتزج فيها الدهشة بالسخط قائلاً: "وخرج الكثير من الناس والمخاليع إلى الغيطان والمنتزهات، ويقول لبعضهم البعض "دعونا نعمل حظ ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة" وطلع أهل الجيزة نساء ورجالا وصاروا يغتسلون في البحر، ومن الناس من علاه الحزن وداخله الوهم، ومنهم من صار يتوب من ذنوبه، ويدعو ويبتهل ويصلي، واعتقدوا ذلك، ووقع صدقه في نفوسهم، ومن قال لهم خلاف ذلك أو قال هذا كذب لا يلتفتون لقوله".

الملفت أن الجبرتي خلال سرده للجدل الذي ثار بين الناس حول صحة إشاعة نهاية العالم، أشار إلى أن الكثيرين استدلوا على صدق النهاية الوشيكة بأن من تنبأ بها هما "فلان اليهودي وفلان القبطي"، والذين لم يذكر الجبرتي اسميهما، بل ذكر أن لهما دراية بالفلك والتنجيم "وهما يعرفان في الجفور والزايرجات ولا يكذبان في أي شيء يقولانه، وقد أخبر فلان منهم على خروج الريح الذي خرج في يوم كذا"، وما زاد من درامية الموضوع أن أحد هذين المنجمين لم يكتف بإشاعة النبوءة بين الناس، بل ذهب إلى أحد الأمراء وأخبره بما سيجري، "وقال له احبسني إلى يوم الجمعة وإن لم تقم القيامة فاقتلني"، وهو ما يعلق عليه الجبرتي بقوله: "ونحو ذلك من وساوسهم وكثر فيهم الهرج والمرج".

وحين جاء يوم الجمعة الذي يفترض أن ينتهي فيه العالم، اتضح أن المتشككين في النبوءة وقد كانوا قليلين جداً كان لديهم حق على عكس الغالبية الساحقة من الناس، لكنهم مع ذلك لم يهنأوا بانتصارهم المتخيل على من صدقوا الإشاعة ونشروها في كل مكان، فحين مضى يوم الجمعة لحال سبيله، وأصبح يوم السبت "ولم يقع شيء"، أخذ مصدقو الإشاعة يروجون أن نهاية العالم كانت ستقع بالفعل، لولا أن "سيدي أحمد البدوي والدسوقي والشافعي تشفعوا في ذلك وقبل الله شفاعتهم"، وحين يسمع الناس ذلك يقولون "اللهم انفعنا بهم فإننا يا أخي لم نشبع من الدنيا، وشارعون نعمل حظ، وهو ما يعلق عليه الجبرتي بقوله "ونحو ذلك من الهذيانات: وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء".


أذكر أن السيناريست الكبير ماهر عواد كان قد حكى لي عن تأثره بهذه القصة حين قرأها في تاريخ الجبرتي، وأنه كتب مشروع سيناريو عنها يتخيل فيه وقائع استعداد المصريين ليوم القيامة في تلك الفترة، وكان ما حكاه لي من تفاصيل ذلك السيناريو مبهراً، لكنه للأسف لم ير طريقه إلى النور كأغلب ما كتبه ماهر عواد، ومن يدري ربما وجد ذلك السيناريو طريقه إلى النور قبل أن تقوم القيامة.

ـ في كتابه الممتع (ترام القاهرة) يقول الكاتب محمد سيد كيلاني إن القاهرة كان فيها "في سنة 1892 ميلادية حوالي 374 ألف و838 نفساً منهم 31 و650 من الأجانب، وكان بها 55 ألف و597 بيتاً و379 جامعاً، ولم تكن شركة المياه تمد من المنازل والجوامع سوى 4397 بيتاً وعشرة جوامع وبقية البيوت والمساجد تستمد مياهها من الآبار وبعضها من صهاريج تملأ في أُثناء الفيضان وبعضها من السقائين منقولة من النيل مباشرة". الملفت أن أول شركة مجاري تم تأسيسها بالقاهرة حملت اسماً شديد الصراحة والوضوح مع النفس هو (شركة نزح المواد البرازية)، لكن عمل الشركة لم يحقق ما كان الكثيرون يرجوه من نتائج، بعد أن استبشروا خيراً بالاسم الذي لم يكن الأداء على مستواه، ولذلك تشكلت في عام 1892 لجنة للنظر في وضع مشروع مجاري لمدينة القاهرة تكونت من ثلاثة مهندسين، فرنسي وألماني وإنجليزي، وقد جاء في تقرير اللجنة ما يأتي: "ولكن لما تألفت شركة نزح المواد البرازية صارت تنزح تلك الخزانات بطلمبات بخارية، تمتص المواد البرازية منها وتلقيها في عربات حوضية مسدودة سداً محكماً، وتنقل تلك الخزانات إلى خارج المدينة".

بعدها بأربعة أعوام انتشر في القاهرة وباء الكوليرا، وتألفت لجنة لدراسة أسباب انتشاره فوضعت تقريراً نشرت صحيفة المقطم في 5 سبتمبر 1896 المقتطف التالي منه: "وغني عن البيان أن وجود هذه الترع في مدينة كثيرة الأقذار قليلة التدابير الصحية خالية من المصارف، لا يخلو من الاخطار والمضار في كل آن، وخصوصا في أوان الوباء، ولما كانت مراحيض المنازل العديدة تنصب في الخليج، والقاذورات تلقى فيه من كل ناحية، والناس يغتسلون ويتوضئون فيه، فيلوثونه بمكروب الوباء في جهة، ليشربوا في جهة أخرى بجانبها، كثرت الإصابات في الجهات المجاورة للخليج، وكذا في الجهات المجاورة للترعة الإسماعيلية، وابلغ منهما الترعة البولاقية، لأنها ضيقة، لا يكاد عرضها يزيد عن مترين، وقد أقيمت عليها أقذر العشش وكثر عليها أفقر الأهالي وكلهم يغسلون ويستحمون ويستنجون فيها، ويشربون منها، فلذلك اشتد الوباء بينهم وفتك فيهم فتكا ذريعا".

ما قرأته في كتاب محمد سيد كيلاني شوقني أكثر لقراءة رسالة الدكتوراة التي أنجزها الباحث شهاب فخري إسماعيل والتي حملت عنوان "هندسة المدينة: الوباء ورأس المال وتأسيس القاهرة كمدينة كولونيالية تحت الاستعمار البريطاني، 1882 ـ 1922"، والتي يدرس فيها تاريخ القاهرة أثناء الاحتلال البريطاني من خلال تاريخ شبكة المجاري في المدينة، وحتى تكتمل ترجمة الرسالة إلى اللغة العربية، أنصحك بقراءة حوار ممتع مع الباحث أجراه أستاذه المؤرخ الدكتور خالد فهمي ونشره على موقعه بعنوان (عبق التاريخ: حوار مع شهاب إسماعيل عن التاريخ والسياسة والمجاري)، كما أنصحك بمتابعة موقع (المدق) الذي قام الباحث بإنشائه، ويقدم فيه بمساعدة عدد من زملائه "جولة افتراضية في تاريخ القاهرة تحاول فهم ما جرى فيها من متغيرات في الحياة اليومية على مدى قرن كامل".

ـ في كتابه الممتع (طرائف ومسامرات) ينقل الدكتور محمد رجب البيومي رواية بطلها الأديب والمؤرخ والرحالة ياقوت الحموي الذي التقى بكاتب اسمه شميم، يصفه ياقوت بأنه "مشهور في آمد"، يعني مدينة آمد التركية التي تحمل الآن اسم (ديار بكر) في جنوب شرق تركيا، ولاحظ ياقوت الحموي أن شميم هذا قابله بكبرياء وترفع استغربهما ياقوت، فسأل شميم عن مؤلفاته التي لم يكن يعرف شيئاً منها، فقال له شميم بمنتهى الألاطة: " إن تصانيفي في الأدب كثيرة، وذلك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم ورتبوها، أما أنا فكل ما عندي من نتاج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب عارضته، فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته، وأنا جمعت حماسة من شعري وحدي، ثم شنّع على أبي تمام وأخذ يسبه، ورأيت الناس يجمعون على فضل أبي نواس في الخمريات فصنعت خمريات، لو رآها أبو نواس لاستحيا، كما أعجب القوم بخطب ابن نباته فدحضتها بخطب أخملت خطب ابن نباتة!".


لم يترك شميم لياقوت الكثير من الوقت، لكي يشعر بالتقصير لأنه لم يسمع من قبل عن هذا الإنتاج المتنوع الغزير الذي يفوق فطاحل الكتابة العربية، فقد تلا شميم على الفور شعراً ركيكاً، فأدرك ياقوت طبيعة الليلة، وقرر أن يشتري دماغه، وقال له مجاملاً: "أحسنت"، ففوجئ بشميم يصيح في وجهه قائلاً: "ما عندك غير الاستحسان؟"، فقال له ياقوت محتاراً: "فماذا أصنع؟"، فقال له شميم بمنتهى الجدية: "تقوم وترقص، لقد ابتليت ببهائم لا يفرقون بين الدرِّ والبعر، والياقوت والحجر".

أدرك ياقوت بحكم خبرته في البلدان والناس أنه بصدد مادة خصبة للكتابة، فلم يترك مجلس شميم، وأخذ يسأله عن رأيه في عدد من العلماء والأدباء السابقين، "فلم يحسن الثناء على أحد"، والذي زاد وغطّى أنه حين سأله عن أبي العلاء المعري، لم يكتف بنهره، بل قال له: "من ذاك الكلب الأعمى الذي يُذكر في مجلسي، كم تسيئ الأدب بين يدي؟"، فلم يلعن ياقوت المدرب على مثل هذه المواقف سنسفيله بل قال له مستدرجاً "يا مولاي ما أراك ترضى عن أحد"، فصاح فيه: "كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني"، فلم ييأس ياقوت وقرر أن يكرر السؤال بصيغة أخرى "فما فيهم قط أحدٌ جاء بما يرضيك؟"، ليأتي "التويست" الأخير في القصة حين اتضح أن شميم يحتفظ بمشاعر ساخطة على كل الكتاب والأدباء والعلماء السابقين عليه والمعاصرين له باستثناء ثلاثة هم أبو الطيب المتنبي وابن نباتة والحريري، لكنه لم يرض عن كل ما أنجزوه، بل تحدث عن جوانب محددة من إنتاجهم مجيباً على سؤال ياقوت الحموي له عن ما إذا جاء أحدهم بما يرضيه بقوله: "لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في خطبه، والحريري في مقاماته"، ليثبت أن لديه على الأقل حداً في التطاوس، وهو ما يجعله أفضل من كثير من المتطاوسين الجهلة الذين ابتلينا بمعرفتهم ومتابعتهم على الإنترنت.

ـ قبل مئات السنين، كتب أبو العلاء المعري يهجو من يظنون أن نشر الوباء بالتردد على المساجد والكنائس، ونشر الخرافات المتمسحة بالدين يمكن أن يقربهم إلى الله، فقال:

قد حُجِبَ النورُ والضّياءُ وإنما ديننا رياءُ
وهل يجودُ الحيا أُناساً منْطوياً عنهُمُ الحياءُ؟
يا عالَمَ السَّوءِ ما عَلِمنا أنّ مُصَليّكَ أتقياءُ
لا يكذِبَنّ امرؤ جهولٌ ما فيكَ للهِ أولياءُ
ويا بلاداً مشى عليها أولو افتقارٍ وأغنياءُ
إذا قضى اللَّه بالمخازي فكلُّ أهليكِ أشقياءُ
كم وعظ الواعظونَ منّا وقام في الأرضِ أنبياءُ
فانصرفوا والبلاءُ باقٍ ولم يزُل داؤكِ العَياء
حكمٌ جرى للمليك فينا ونحن في الأصل أغبياءُ

وربما كانت قراءة هذه الأبيات واجبة لتجديد لعن سنسفيل شميم الذي لا يفقه شيئاً عن شيئ.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.