الكسر في المناقصات

الكسر في المناقصات

30 مارس 2020
+ الخط -
تبرز قضية كسر الأسعار المتبعة في المناقصات العامة في سورية إلى السطح بنسب عالية كدليل إثبات قوي على وجود حالة فساد شبه معلنة تضعنا أمام إشكالية تشريعية من جهة وتطبيقية من جهة أخرى..

حيث تثير مسألة كسر الأسعار في المناقصات التي تعتمد على اختيار عامل السعر الأقل المقدم من العارض فقط، جدلاً واسعاً، وهو ما لا نراه في النوع الآخر المتبع في العقود، حيث تدخل في الأخير جوانب فنية تستدعي تقديم عرض فنّي وآخر مالي من العارض، ومن خلال تقسيم السعر على العلامة تتم المفاضلة وانتقاء السعر الاقتصادي والعرض الأفضل، أما المناقصة كما هو معلوم فتتم من جلسة واحدة والإرساء حتماً على السعر الأقل.. وهذا كله يحدث في ظل غياب الناحية الرقابية الحقيقية لدى الجهات الحكومية المعنية كل منها على حدة، ومع تفشي حالة الفساد والإفساد في بعض اللجان المشكلة لتسلّم المشاريع من المتعاقدين أو مراقبة تنفيذها..

خطورة كسر السعر المبالغ فيه تتجلى أكثر في حالة المشاريع التنفيذية (كإنشاء مبان، جسور، طرق، صرف صحي… إلخ) بالنزول بالسعر، ما يعني حتماً النزول في مستوى الجودة، وهذا قد تكون له نتائج كارثية على المدى البعيد، وذلك كله على اعتبار أن المتعاقد لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يخسر ويدفع شيئا من جيبه الخاص، أما في حالتي التوريد أو الخدمات، على أهمية عدم تجاهل استنزافهما للمال العام، فأضرارهما تظل محدودة، يمكن تلافيها مع انتهاء العمر الافتراضي للمستوردات، وخاصة إذا ما كانت تجهيزات وما شابه ذلك، وأيضاً بالنسبة للخدمات فهي ذات مدد قصيرة نسبياً.

وثمة من يرى وجود خلل تشريعي في قانون العقود الموحّد رقم 51 تجعل القائم على فض العروض في حالة المناقصة مجبراً على اختيار العرض الذي يقدم السعر الأقل على الرغم من يقينه المسبق بأنه سيكون على حساب الناحية الفنية والجودة، لا سيما أن القانون لم يضع حداً أعلى لكسر الأسعار في كلتا حالتي عروض المشاريع التنفيذية: عروض الأسعار، الكشف التقديري، حيث إنه في الحالة الأولى على الرغم من التزام المتقدم للإدارة بعرض محدّد دون زيادة أو نقصان (ممنوع الكسر أو الإضافة) وهنا تكون الإدارة قد وضعت رقماً سرياً للمشروع يقدمه مكتب هندسي مختص تابع لها ولا يعلم هذا الرقم سوى المدير المختص لديها، وعند فتح المغلفات يفوز السعر الأقل حتى لو كان هناك فرق كبير بين السعر الفائز والسعر السرّي، أي أقل منه، ويتم اعتماده، علماً أن السعر السرّي مدروس بدقّة وفق أسعار السوق وبما يحقق الجودة من الناحية الفنية وبهامش ربح يراوح بين 10 و20%، وهامش الربح هذا يتضمن الرسوم والضرائب المترتبة على العمل. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة: كيف ارتأى العارض تقديم سعر أقل من السعر السرّي، ما لم يكن قد تم تسريب السعر السرّي له؟ أم أنّه فعلاً هناك مقاول يقبل أن يخسر مقابل أن يُقدم خدمات ريعية لجهة عامّة؟ إذاً لماذا هناك رقم سرّي بالأساس؟


ففي الحالة الثانية، أي الكشف التقديري أيضاً، تتم دراسة واقع الأسعار الرائجة، وتبقي على هامش ربح (10-20%)، وتقدمه الإدارة في مناقصة تعلن في الجرائد الرسمية، وعند فض العروض يتم اختيار السعر الأقل بناءً على مسألة كسر السعر، وغالباً ما تتم المبالغة في كسر السعر وبفارق كبير للأسعار الواردة في الكشف، وبالتالي سيؤدي حتماً إلى تدنّي الناحية الفنية وسيفتح باباً جديداً لإفساد ورشوة اللجنة القائمة على الإشراف ولجنة الاستلام.

وبما أننا نفترض جدلاً أن المتعاقد يحاول دائماً تحقيق أكبر ربحية ممكنة مع غياب الجهات الرقابية الفاعلة والجدية، فهذا يعني أنه سيقوم بالتلاعب بالمواصفات، سواء تم التحديد أم لم يتم. إذاً، العملية مرتبطة بالجهات الرقابية. كما يشير أحدهم إلى مسألة قانونية تتعارض مع إمكانية تحديد سقف لكسر الأسعار، وهي كيف ستتعامل الإدارة في حال تقدم أكثر من عارض بقيمة السقف المحدد للكسر من الإدارة التي تمتلك الوسائل الكفيلة بضبط عملية التنفيذ، منها وسائل عقابية، مثل سحب التعهد من المتعاقد، وحرمانه من التعاقد مع الجهات الحكومية لفترات قد تصل إلى 5 سنوات، وهذا ما حدث فعليا مع عدد من المتعهدين الذين تم حرمانهم من التعاقد!

فمسألة الكسر في أسعار المناقصات العامة المعلنة ظلت تُثير الكثير من الجدل بين كافة الجهات المعنية والرقابية في سورية.

فبمجرد أن تُعلن أي جهة من جهات القطاع العام عن مناقصة لتنفيذ مشروع ما، تنهال عليها العروض من كل حدب وصوب، والتي تتضمن في معظمها كسراً للأسعار المعلنة، وبنسب كبيرة، قد تصل في أحايين كثيرة إلى أكثر من 44% من أصل القيمة التقديرية للمناقصة أو العقد.

إنَّ كسر الأسعار من هذا النوع - بالتأكيد - يتمُّ على حساب المواصفات والجودة في ظل النقص العددي الكبير في عدد الفنيين لدى معظم الدوائر، ناهيك عن النفقات النثرية الأخرى، ومثالها: قيمة طابع العقد، وضرائب مالية، ومصاريف أخرى قد تصل نسبتها أحياناً إلى أكثر من 13% من قيمة العقد.

وهنا يتساءل البعض: كيف يمكن أن تُنجز هذه المشاريع في نهاية المطاف؟ وما هو دور لجان الإشراف حيال هذا الواقع الذي صار لا يُطاق؟

فالكل متفقون هنا على أن المقاول لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يخسر شيئاً من جيبه الخاص، بل تراه دائماً في حالة اكتفاء وبحبوحة وربح مؤكد، ما يعني أنَّ في الأمر سرّاً ما يُخفيه، والخاسر هو الجهة العامّة المعنية بهذا المشروع أو ذاك، التي تقع على كاهلها مجمل العواقب والتي ستكون في موقف حرج جداً حيال ما يجري، ناهيك عن الفروقات بين جهة وأخرى وقطاع وآخر.

وإذا ما حاولنا الوقوف على ما هو منفّذ على أرض الواقع، فانَّ هناك بعض المشاريع لا تمضي عليها فترة من الوقت حتى تظهر عليها بعض العيوب، وتبدأ معها مرحلة الصيانة والترميم، والتأهيل، وهذا بدوره يفتح المجال أمام أسئلة كثيرة وكفيلة بأن تُبرّر ما انتهى إليه المشروع من نتائج لا يحسد عليها، ما يوقع المنفّذين والمشرفين، وحتى الدارسين للمشروع، في موقف المتهم!

فهل المشكلة تكمن في الدراسة الفنية؟ أم في الشروط المالية التي أعدتها الجهة صاحبة المشروع، والتي كانت بعيدة كل البعد عن الدقّة في دراستها؟ أم العكس هو الصحيح؟

وإذا كان الحال كذلك، فلماذا لم تُحدّد الكلفة الحقيقية للمشاريع المنفّذة، أو التي يجري العمل على تنفيذها قبل إعداد الدراسة الفنية للمشروع المراد القيام به؟

وإذا كانت الدراسة غير دقيقة، فهنا - بالتأكيد - ستكون المفارقة صارخة، لا سيما أنّ جميع جهات القطاع العام متخمة بالمهندسين الذين يُفترض أنَّهم على علم ودراية بكلفة الأعمال التي سوف يجري العمل على تنفيذها، وبدقّة، في حين أنَّ الكثير من المهندسين أمضوا سنين طويلة في هذا الميدان، ولديهم خبراتهم الكافية.

وإذا كانت هذه الجهات تُنفّذ مشاريعها، ومنذ سنين طويلة، ألم يَحنُ الوقت بعد لتتعلم من تجاربها المتكرّرة في تنفيذ هذه المشاريع، وتضع دراسة علمية مشروطة لكل مشروع على حدة كي لا يتم كسر الأسعار على حساب الجودة، ناهيك عن النقص في كميات المواد الداخلة في الأبنية المشادة من إسمنت وحديد، والتلاعب بالمواصفات..

أما حال البعض من المقاولين المخلصين، فهؤلاء بعيدون - بلا شك - عن الفوز بأي حصّة من الحصص المقرّرة لهذه المناقصات "الدسمة"، باعتبار أنهم يعملون بإخلاص في عملهم، ويؤدون دورهم على أكمل وجه، بعيداً في ذلك عن الحسابات الأخرى.

ومن بين الصور السلبية التي أظهرتها المناقصات، هو أنَّ هناك بعض الجهات العامة باتت تضم عدداً من المهندسين موزعين على لجان الإشراف، وغيرها.. الغريب أنَّ البعض من المهندسين ممن تربطهم بأصحاب الأضابير الثقيلة (المتعهدين) علاقات متينة لطالما يُلحظون - وبشكلٍ دوري - في أغلب المشاريع، ويكلّفون في لجان الإشراف والاستلام "يا عين الله عليهم"! وغيرهم كثيرون ما زالوا مستبعدين عن أخذ دورهم أسوة بزملائهم!

يبدو أنَّ هؤلاء المهندسين، وغيرهم من المعنيين بهذه المسألة، الذين يُكلفون بأوامر إدارية - وعلى ما يبدو - هم الأجدر من زملائهم الباقين، وأكفأهم خبرةً ودراية ومعرفة!

بقي أن نقول إنه يجب العمل على تحديث القوانين المتبعة في عقود المناقصات بما يمكّن اللجان المختصة من إعطاء الناحية الفنية للعمل الدرجة الأولى، وإعطاء بعض الصلاحيات للجنة فضّ العروض لاستبعاد العروض المبالغ فيها التي تثير الريبة والشكّ، وإلزام القطاع العام بتنفيذ 70% من الأعمال المكلف بها عن طريق كوادره وخبراته الذاتية، وهذا ما يفيد في رفع السوية الفنية لهذه الكوادر ويشجّع المبادرات الذاتية ويحد من البطالة المقنعة في المؤسسات العامة.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.