الرجل الذي هاجم رجال الشرطة

الرجل الذي هاجم رجال الشرطة

30 مارس 2020
+ الخط -
أصبحت سهرة الإمتاع والمؤانسة تعقد باستخدام تقنية الماسنجر التي تتيح لبضعة أشخاص أن يلتقوا ويتبادلوا الأحاديث في مكالمة جماعية مصورة. الجديد في السهرات الأخيرة أن الحاضرين كلهم أحبوا "أبو نادر" الذي حكيت لهم بعضاً من فصوله، وصاروا يطلبون الاستمرار في رواية حكايات أخرى عن هذا الإنسان الظريف.

قلت: لو عملتوا تصويت على شخصية أبو نادر أكيد بتطلع النتيجة متل نتائج التصويت تبع مجلس الشعب. إجماع.

قالت أم زاهر: كلامك صحيح يا أستاذ، لكن في فرق كبير بينَّا وبين أعضاء مجلس الشعب. هني بيصوتوا بالإجماع لأن بتجيهم أوامر من المخابرات أو من القصر الجمهوري، يا أما بينتبهوا إلى أنه التصويت مع البقية بيحقق لهم مصلحة شخصية.. أما نحن فحبينا شخصية أبو نادر من دون ضغط أو إكراه أو مصلحة.

قال كمال: على سيرة الضغط والإكراه أنا في عندي حكاية كتير كويسة بتناسب وضعنا الحالي تماماً. لكن المشكلة إذا حكيتها راح يصير تأجيل لحكايات أبو نادر..

قال أبو محمد: شلون يعني بتناسب وضعنا الحالي؟ قصدك موضوع هادا المرض اللي كلياتنا خايفين منه؟

قال كمال: نعم. قصدي موضوع الكورونا، وموضوع البيت تبعنا اللي لقيناه فجأة عم يتحول لسجن، ومدة السجن مو معروفة، متل قانون الطوارئ تبع حافظ الأسد.

قالت أم الجود: لا تواخذني يا أستاذ كمال، أنا ما فهمت شي من كلامك. ممكن توضح لنا أكتر؟

قال كمال: طبعاً بدي أوضح. يا ست أم الجود كان بزمانه في حلب رجل ذكي كتير، وعبقري إسمه محمد خير الدين الأسدي. هادا الرجل حجمه بيطلع بحجم مؤسسة ثقافية قائمة بذاتها. عاش "الأسدي" واحد وسبعين سنة (1900- 1971) وهوي أعزب، ما تزوج.


قال أبو الجود: والله يا أستاذ كمال إنته عم تلف وتدور بالحكي حتى تثبت لنا شغلة واضحة متل الشمس. يا أخي لو من الأول قلت إنه (ما تزوج) لحالنا منعرف إنه ذكي وعبقري!
ضحك الحاضرون، وقالت أم الجود: كمان المرا اللي ما بتتجوز ذكية وعبقرية!

قال كمال: نعم. أنا متضامن مع أم الجود، وببصم لها بالعشرة. المهم إنه الأسدي، من دون ما حدا يساعده، أنجز كتاب ضخم إسمه موسوعة حلب المقارنة، وهالكتاب بيأرخ لمدينة حلب اجتماعياً وحضارياً وسياسياً، وبيقارنها مع البلدان الأخرى. أنا لما انتهيت من قراءة الكتاب
قلت لحالي: بالفعل إنجاز هيك كتاب بيحتاج لمؤسسة وفريق عمل من الباحثين المتخصصين، وشي عظيم إنه الأسدي أنجزه لحاله.

قال أبو محمد: كل شي قلته يا أستاذ كمال ما إله علاقة بوضع الكورونا تبعنا.

قال كمال: هلق وصلنا له. تطمن. في أحد فصول هالكتاب قريت حكاية عن إنسان عاش في العصور القديمة، وكان عامل على نفسه حَجْر دائم. متل الحجر اللي هلق نحنا عايشينه. رجل ما بيطلع من البيت نهائياً. وكمان هوي متل الأسدي، مو متزوج.

قالت أم الجود: هلق بيقلك جوزي إنه هالرجل بيفهم.

قال كمال: بصراحة أنا ما بعرف شي عن مستواه العقلي وإذا كان بيفهم أو لأ. لكن هوي إنسان منسجم مع نفسه. هلق ممكن إنتوا تسألوني إنه كيف بيدبر أموره المعاشية؟ طبعاً هاي بسيطة، إذا طول شعره بيطلب الحلاق يجي لعنده عالبيت، وإذا مرض بيجي الدكتور ع البيت، وفي كم شاب من أولاد أخوه وولاد أخته بيأمنوا له حاجياته من أكل وشرب ولوازم مختلفة. ولحد هون نحن أمام حالة غريبة وشاذة، لكنها خالية من الدراما. وفجأة بتبلش الدراما (الأكشن) تاخد مجراها.

قالت أم ماهر: هههه.. يعني دخلنا بالجد.

قال كمال: والي حلب مات، والحكومة المركزية في الأستانة عينت لحلب والي جديد، هالوالي استلم منصبه، وصاروا الوجهاء يروحوا يباركوا له، وأثناء المباركة كان يسألهم عن تركيبة حلب الجغرافية والسياسية والاجتماعية وطبائع أهلها، وكانوا يحكوا له، ومن الجملة في واحد قال له إنه في عندنا بحلب رجل عمره خمسين سنة وطول عمره وهوي قاعد في البيت ما بيطلع. اندهش الوالي، واهتم كتير بهالشخص، وصار يسأل عنه، والحاضرين يجاوبوه لوقت ما انصرفوا.

الوالي صار يفكر ويفكر، حتى طلعت معه فكرة غريبة، وهيي إنه هادا الشخص ممكن يكون جاسوس، وأكيد هالقعدة في البيت ما هي لله، يعني لا تستغرب إنه في ناس بيدخلوا لعنده بحجة مساعدته بقضاء حاجاته، وهوي بيزودهم بمعلومات عن البلد وعن المملكة..

قال أبو زاهر: آسف للمقاطعة أستاذ كمال. هادا الوالي بعثي؟!

ضحك الحاضرون، وقال كمال: بالفعل هادا النوع من سوء الظن بالمواطنين والنظر إلهم وكأنهم أعداء وجواسيس اشتهروا فيه البعثيين وبالأخص في مرحلة حافظ الأسد وابنه. المهم هادا الوالي قرر يراقب الشخص اللي قاعد في بيته، وأمر قائد الشرطة إنه يحط مفرزة أمنية على باب البيت، تشوف مين داخل ومين طالع، وتراقب الوضع عن كثب، وتمنعه من الخروج لحين التأكد من وضعه. قائد الشرطة نفذ توجيهات الوالي وحط مفرزة بتشتغل بطريقة المناوبة على باب الرجل، وبعت له خبر إنه ممنوع يغادر بيته من دون إذن رسمي، فغضب الرجل غضب شديد، وطلع من البيت وهوي شايل بإيده عصاية، وهجم على عناصر المفرزة وصار يصيح ويهددهم إذا ما راحوا من هون بده يخرب الدنيا على رؤوسهم.
العناصر تمكنوا من القبض عليه، وأخدوه على المخفر، وخبروا قائد الشرطة، اللي بدوره خبر الوالي. الوالي قال: جيبوه لعندي. بدي أشوفه. جابوه لعند الوالي.

قالت أم ماهر: الأستاذ "كمال" معلم بالتشويق. يا الله شو حلوة هالقصة.

قال كمال: يمكن أنا أقل واحد بين الأصدقاء في مجال سرد الحكايات. المهم إنه الوالي قال لهادا المواطن:
- أمرك غريب يا أخ. إنته صار لك خمسين سنة قافل على حالك الباب وقاعد. ولا مرة أبديت ضيق أو زعل. شو اللي استجد حتى عملت كل هالثورة؟

قال المواطن: نعم. أنا قعدت في بيتي خمسين سنة، لكن بإرادتي. ما حدا فرض علي القعدة. أما والله لما عرفت إنه في عناصر على باب بيتي عم يراقبوني وإني ممنوع إطلع إلا بإذن حسيت بالاختناق.

(تحية لروح أستاذنا الأسدي. وللعلم، لقد أخذنا هذه القصة منه بتصرف).

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...