نصيحة أخوية تسبب الوفاة

بدأنا، مع الوقت، نألف عقد سهرة الإمتاع والمؤانسة باستخدام تقنية المكالمات الجماعية على الماسنجر، وقد اعتبرناها خطوة إلى الأمام، نسبياً، ففي السابق كانت سهراتنا ذات طبيعة ذكورية، ثم أضفنا إليها بعض نسائنا الموجودات في إسطنبول، وبفضل هذه التقنية استطعنا أن نضيف إلى السهرة السيدة أم زاهر الموجودة في ألمانيا ولا تستطيع المجيء إلى إسطنبول في ظل الظروف الحالية. 

في النهار، كتب الأستاذ كمال على مجموعة "واتساب" اقتراحاً بسيطاً، مفاده أن تتخلل السهرة المصورة وقفات قصيرة لتناول العشاء، ثم وقفات أقصر قليلاً لشرب الشاي، وهكذا نشعر وكأننا ساهرون مع بعضنا فعلياً لا افتراضياً.

كتبت أم الجود ملاحظة يبدو أنها أرادت منها استفزاز زوجها وهي: أنا ما إلي علاقة بوقفات العشا وشرب الشاي، أنا لغيت وجبة العشا من زمان، كمان ما بشرب منبهات سخنة في السهرة. 

رد أبو الجود بتسجيل صوتي قال فيه وهو يضحك: نعم. مدامتي بعيد عنكم عاملة ريجيم، بتخاف إذا تعشت إنها تسمن، ومتوقفة عن شرب المنبهات حتى تحسن تنام منيح، شكيتها لله، قديش بتداري صحتها.

كتبت أم مرداس: يا عبد المجيد اتروك أم الجود بحالا.. ترى أنا بحتج. 

كتب أبو ماهر: أن بضم صوتي لصوت الست أم مرداس. وإذا كان لا بد من المناقرة بيناتكم خلوها للسهرة.

أرسل أبو الجود تسجيلاً آخر قال فيه: 

- لا تخافي عليها يا أم مرداس، الله وكيلك إذا بيجتمعوا عليها خمسة متلي ما بيطلعوا من خرجها. على كل حال أنا منتظر الدعم المادي اليومي، وفي السهرة منلتقي عالماسنجر.

في بداية المكالمة الجماعية أوضح الأستاذ كمال أن سهرة الإمتاع والمؤانسة صار لها، في الآونة الأخيرة، ثلاثةُ نجوم رئيسيين.. هم: أبو الجود وأم الجود، اللذان يحضران معنا دائماً في السهرة، وتثير مناقراتهما ومماحكاتهما الضحك دون أن تخلف قهراً أو ضغينة.. الشخص الثالث هو أبو نادر، الرجل الساخر، الظريف، المتحضر الذي ينفر من الناس الخشنين، ويتحدث عنهم بتهكم عجيب، وقد فتحنا سيرته قبل أيام فاستولى على قلوبنا..  

قال أبو محمد: أنا بتمنى إنكم تحكوا لنا شي نهفة من نهفات أبو نادر. بصراحة كتير حبيت هالشخص.

قالت حنان زوجة كمال: وأنا بأيد كلام العم أبو محمد. تفضل يا أبو مرداس. الحكاية بالأصل حكايتك.

قلت: أبو نادر هلق موجود في مدينة إدلب. لما انطلقتْ الثورة في سنة 2011 ما شارك فيها أبو نادر، ولا وقف ضدها، وإذا حدا طلب منه يبدي رأيه بهالمظاهرات والاعتقالات والمشاكل اللي عم تصير، كان يقول إنه هادا الشي متوقع ولا بد ما يحصل.. 

كان قاعد مرة مع صديقه أبو نعيم وعم يحكوا بالموضوع. أبو نعيم قال له: ما فهمت قصدك. كيف يعني متوقع ولازم يصير؟

قال أبو نادر: مرة زوجتي أم نادر جابت طنجرة كبيرة، وحطتها على البوتاجاز، وحطت فيها فول وحمص وبصل وبرغل سوادي، وغطتها، وبعد شي ساعة فتحت غطا الطنجرة وتفاجأت لما لقت جواتها كراديش لحم خاروف مسلوق شي بيشهي القلب، وتحتها رز وفريكة وصنوبر. 

قال أبو نعيم: معقول هالحكي يا أبو نادر؟ المتل بيقول إنه "اللي بتحطه في الدست بيطلع لك بالمغرفة".

قال أبو نادر: وإنته قلتها. واللي صار في سورية خلال خمسين ستين سنة ها هيي نتيجته، والحبل ع الجرار.

قالت حنان زوجة الأستاذ كمال: وأيش صار بعدين؟

قلت: والثورة، بعدما مر على بدايتها زمن، تحولت لحرب طاحنة، وصار في فرز قوي بين مكونات المجتمع، وانقسامات حادة، وبلش نظام ابن حافظ الأسد يقصف الناس بكل صنوف الأسلحة.. هون دخلنا بمرحلة جديدة هيي مرحلة النزوح. 

قالت أم زاهر: وأبو نادر نزح؟

" هون فهم أبو نعيم الرسالة اللي كان أبو نادر بده يوصلها إله. وهيي إنه هوي مستحيل يعطي نصيحة لواحد، ولا سيما إنه هالنصيحة ممكن تودي بحياته "

قلت: لا. الحقيقة إنه أبو نادر كان عم يشوف بعينه الناس وهني عم يبيعوا بعض الممتلكات وبيجمعوا شوية مصاري وبيضبوا شوية حاجيّات وبينزحوا لتركيا، أو للبنان، أو باتجاه قرى سورية نائية غير مدرجة ضمن خارطة القصف.. وأبو نادر قاعد، ولا كأنه في شي صاير في الدنيا. وهادا شي بالنسبة إله خاص جداً، ومع ذلك ما كان يعترض، ولا كان ينتقد حدا من أصدقاؤه اللي هاجروا، وكان يقول إن كل إنسان أدرى بمصلحته. 

قال له أبو نعيم ذات مرة: 

- هادا موقف سلبي يا أبو نادر، لازم إنته تنصح الناس اللي بتحبهم حتى يتمسكوا بأرضهم. 

قال أبو نادر: له يا أبو نعيم.. بتعتقد إني بقصر بهيك مجالات؟ أبداً، حتى إني من شي أسبوعين كنا سهرانين في المزرعة عند أخونا "أبو ظافر" وحكى ابن حارتنا "أبو تامر" إنه عم يضب غراضه هوي وعياله وبدهم يطلعوا ع تركيا. أنا قلت له اسمع مني لا تطلع، وذَكَّرته بموضوع "التمسك بالتراب" الموجود في كتاب الأدب العربي تبع البكالورية. وقريت له مقطع من قصيدة للشاعر البعثي يوسف الخطيب. 

قال أبو نعيم: واقتنع؟

قال أبو نادر: بالأول عصلج وصار يعاند، وقال لي إنه خلص بده ينزح، قمت أنا دخلت على جوجل وبحثت عن أغنية قديمة من أيام الـ 1967، وسمعته إياها، بوقتها اقتنع.

قال أبو نعيم: شو هيي الأغنية؟

قال أبو نادر: ميراج طيارك هرب - مهزوم من نسر العرب. بتعرف لما سمعها أبو تامر أيش عمل؟ عينيه غرغروا بالدمع، وفتح الموبايل ودق لمرته تلفون وقال لها: وقفي ضب الغراض يا أم تامر، بطلنا ننزح. سمعتها عم تقله: يوه. ليش يا رجال أيش صار؟ قال لها: بدي إتمسك بالتراب متلما نصحني أبو نادر.

توقف أبو نعيم لحظة وصفن وقال: هادا أبو تامر مو هوي اللي انقتل بالقصف على حي البيطرة؟

قال أبو نادر: هوي بذاته. الله يرحمه. لو شفت أولاده ومرته كيف إجوا لعندي وصاروا يتشكروني! ابنه تامر قال لي حرفياً: نحن عاجزين عن شكرك يا أبو نادر. لولاك كان والدنا عايش، وصحته متل الحصان!

هون فهم أبو نعيم الرسالة اللي كان أبو نادر بده يوصلها إله. وهيي إنه هوي مستحيل يعطي نصيحة لواحد، ولا سيما إنه هالنصيحة ممكن تودي بحياته. وللأسف في كتير ناس بيشلفوا نصائحهم بمناسبة وبدون مناسبة.