لماذا احتفل غوغل بأغناتس سيملفيس؟ وعلاقة ذلك بكورونا (2/2)

لماذا احتفل غوغل بأغناتس سيملفيس؟ وعلاقة ذلك بكورونا (2/2)

24 مارس 2020
+ الخط -
عملًا بتقنية الفلاش باك السينمائية، لو عدنا إلى سيملفيس؛ فإننا سنرى حنق زملائِهِ عليه، فلم يكتفوا بتشويه صورته في المجتمع، بل وحرضوا عليه وأوغروا صَدرَ المسؤولين، حتى فُصِل من المستشفى، وشُطب اسمه من نقابةِ الأطباء، بل وطُلِّقت منه زوجته بالإكراه، وأودِع مصحةً عقلية، وخرج منها إلى السجن، ثم صدرت الأوامر للجنود أن يتخلصوا منه؛ فتناوبوا عليه بالضربِ والركلِ حتى فارقَ الحياة، في عمر 47 ربيعًا، وإمعانًا في التنكيل به -بعد وفاتِه- منعوا دفنه في مسقط رأسه.

طُوِيت صفحةُ حياةِ سيملفيس.. بالأحرى طُويت حياةُ سيملفيس الشخص، ولكن ماذا عن سيملفيس الفكرة؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، لعلنا نفيد من عقد مقاربة (بالباء) سريعة بين ليانغ 2020 وسيملفيس 1865؛ فبُعيد وفاة ليانغ سُكبت دموع كثيرة، لكن أرواحًا أزهِقت بصورة مخيفة، أنت ترى وتسمع كل ثانية -دون مبالغة- بخبر عن فيروس كورونا؛ فعدد الإصابات بالفيروس 244 ألفًا و973 إصابة حول العالم، لقي منهم 10 آلاف و33 حالة حتفهم، ما يعني أن ليانغ لم يكن واهمًا، وأن الطامة طافت الأرض.

تتربع الصين، حتى لحظة كتابة هذه السطور، في رأس قائمة المتضررين من فيروس كورونا المستجد، بلغ عدد المصابين فيها 80 ألفًا و967 حالة، لقي منهم 3 آلاف و284 حتفهم. أيام سيملفيس وإن اختلفت الأرقام، فقدت نساء كثيرات حياتهن، بالرغم من وجود الناصح الأمين وسهولة الحل، لكنه التعنت وسطوة الإيغو. بعد وفاة سيملفيس، لاحظ زملاؤه أن نسبة الوفيات في عنبره قفزت من 2.0 في المئة إلى 10 في المئة؛ لتتساوى وتتساوق مع نسبة الإصابة في عنابرهم التعيسة، ثم ارتفعت نسبة الوفاة في المستشفى نتيجة حمى النفاس إلى 35 في المئة، وتيقنوا بعد فوات الأوان أنه كان محقًا، وأنه لم يستحق الخذلان والحرمان.


بعد مرور اثنتي عشرة سنة على وفاة سيملفيس، خرجت للنور "نظرية الجراثيم" للكيميائي الفرنسي لويس باستور، بعدما درسَ فكرة سيملفيس وبرهن على صحتِها، عندها قامت الدنيا على ساقٍ فاغِرةً فاها مناديةً بعبقريةِ سيملفيس. صكت النمسا والسويد عملات ورقية ومعدنية تحمِلُ صورته، ونُقِل رُفاتُه إلى مسقط رأسه في بودابست، وأنشِئت جامعةٌ تحمل اسمه، ومتحفٌ للتاريخ الطبى، ومجموعة من مظاهر الحفاوة بسيملفيس الفكرة.

وفي عام 2008، احتفت به واحتفلت منظمة يونسكو، لم تحتفل بسملفيس الشخص، إنما سيملفيس الفكرة، وخصصت يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام يومًا عالميًا لغسل الأيدي، وهو تجسيد لأهمية سيملفيس الفكرة، فالفكرة لا تموت.

ثمة فرق بين ليانغ وسيملفيس؛ فالطبيب الصيني نشر تحذيره على منصات التواصل، وشاهد خبر وفاته على موقع ويبو الصيني (يكافئ موقع تويتر) ما يربو على مليار ونصف مليار إنسان، في حين كتب سيملفيس خطاباته المفتوحة ودفع ثمنها من جيبه الخاص. فرق آخر بين الرجل وإن جمعتهما فكرة نبيلة، أن ليانغ وبفضل ثورة التكنولوجيا لم يحتج 12 سنة لنعرف صدق تحذيره، أما سيملفيس فلم يخدمه عصره في هذه المسألة، وجُوزِي الرجلان جزاء سنمار، وهُضم حقهما بين أناس التمسا لهم النجاة.

لم يكن أغناتس سيملفيس وليانغ بِدعًا من الأطباء والعلماء، كثيرون مروا على هذا الدرب الشائك، منهم الأميركية راشيل كارسون، كتبت "الربيع الصامت" محذرةً من خطر مادة "دي دي تي"، وذهبت صرختها هباءً منثورًا في حياتها، وهاجمتها شركات المبيدات وسفهت آراءها، ونعتتها بالآنسة الحمقاء بنت الأربعين عامًا، وماتت كارسون في 14 إبريل/نيسان 1964 بكمدها وبسرطان ثديٍ -وفيروس الجهاز التنفسي- جرّته عليها الـ"دي دي تي".

بعد وفاتها، أدركوا صدق ما دافعت عنه، وخسرت حياتها في سبيله، وحُظرت مادة دي دي تي في أرجاء الأرض. لم يقل أحدهم أنا "نمبر ون"، ولم يتبجح أنه الأعلم والأعلى أجرًا والأوسع شهرة، آمنوا بفكرة ودافعوا عنها حتى الموت، وخدموا البشرية ولو على حساب أنفسهم، ولسان حالهم يردد مع كريم العراقي (ونقضي العمرَ نُكرانًا وفقرا/ وبعد الموت أعلامًا نصير).

اليوم، 20 مارس/آذار 2020، لا يوفق تاريخ ميلاد سيملفيس، إذ ولد يوم 1 يوليو/تموز 1818، ولا حتى يوم وفاته، فقد توفي يوم 13 أغسطس/آب 1865، لكن جائحة كورونا أعادت سيملفيس الفكرة من مرقده، وأعادت تقديمه إلينا من جديد، في لمحة دالة -وما أبلغها من رسالة- على أهمية غسل الأيدي للحفاظ على الأرواح. اغسل يديك لتحافظ على حياتك وحياة محبيك، وتذكر أناسًا دفعوا حيواتهم ليوصلوا إليك معلومة تبدو بسيطة، لكنها مؤثرة أيما تأثير.

اعمل ولا تنتظر مكافأة، وانصح.. لكن لا تشترط القبول، كن صاحب فكرةٍ تعشْ طويلًا، لا تيأس ولا تتكاسل؛ فما أبعد الخيرات عن أهل الكسل، وتذكر دائمًا أبدًا أن الفكرة لا تموت. ثق يقينًا أن البذرة ستنبت يومًا وإن تأخرت، واجعل همك أن تؤدي دورك؛ فعليك بذر الحب لا قطف الجنى، والله للساعين خير معين.