لماذا احتفل غوغل بأغناتس سيملفيس؟ وعلاقة ذلك بكورونا! (1/2)

لماذا احتفل غوغل بأغناتس سيملفيس؟ وعلاقة ذلك بكورونا! (1/2)

23 مارس 2020
+ الخط -
الفكرةُ أقوى من الرصاص، هذه معلومة صادقة، الفكرةُ لا تموت، وإن كنتَ تريدُ دليلًا على ذلك، فاسمح لي أن أحتجَ بكَ عليكَ فأقول: أنت إلى هذه اللحظة معجبٌ بأناسٍ وسِدوا في قبورهم منذُ مئاتِ السنين، وربما منذ آلاف السنين، وقد قَفَزَ أحدُ هؤلاءِ إلى ذاكِرَتِك الآن، وهذا الإعجابُ ليس قائمًا على وسامةِ أجسامهم، ولا على واسِعِ نفوذهم أو حتى مناصِبِهِم المرقومة، ولكنه إعجابٌ بجودةِ أفكارِهم، وإن اختلفَ مقياسُ الجودةِ من شخصٍ لآخر.

الفكرةُ لا تموت، إنها أبقى من الشخص، ولذلك فرسالةُ المرءِ في الحياة - ورسالة المؤسسات والهيئات - ما هي إلا فكرةٌ يُخلِصُ المرءُ لها ويتفانى في سبيلِها، ويسترخِصُ لقاءَ تحقيقها كلَّ غالٍ ونفيس. مات إسحاق بن راهويه وبقيت فكرتُه، وتلقفتها أذن تلميذه النجيب، محمد بن إسماعيل البخاري، فأنتج للدنيا صحيحه الذي ملأ الآفاق نورًا وبصيرة.

كان إسحاق قد خطرت له فكرةٌ فأذاعها على تلاميذه يومًا، قال: "لو أن أحدَكم يَجْمَعُ كتابًا في ما صحَ من سنة رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - فوقعَ ذلك في نفس البخاري، وأنت ترى نتيجة هذه الفكرةِ ماثِلةً أمامَ عينيك كلما ذُكرَت السُّنة المطهّرة.

الفكرةُ لا تحتاجُ للقهرِ ولا للقسرِ كي يؤمنَ الناسُ بها، بل تحتاجُ فقط إلى أن تكونَ مؤثِرةً في دنيا الناسِ سلبًا أو إيجابًا، حتى يتفاعلَ الناسُ معها؛ فإن كان تأثيرها إيجابيًا فهي مِسْكٌ فَوَاحٌ وماءٌ قَرَاح، ينتفعُ بها القاصي والداني، أما إذا كان تأثيرُها سلبيًا فهي نِقمَةٌ على العبادِ والبلاد.

لم يستخدم غاندي القهر ولا العنف لتحرير الهند من قبضة الاستعمار الإنكليزي الفولاذية، بل استخدم طرقًا لا تُقاوم؛ فأدركَ أن النيرانَ لا تُطفأُ بالنيران، ولا بدَ من استعمالِ العلاجِ الناجعِ النافعِ لرد الإنكليز عن الهند مع حقنِ دماءِ مواطنيه. كان سلاحُه المقاومةَ السلمية - بمعنى الكلمة، الذي شُوِّهَ مؤخرًا - وتحقّق مراده.


اخترع ألفريد نوبل البارود وجلبَ ويلاتٍ لا حصرَ لها، وتوصل بول هيرمان مولر لمادة DDT ووُصِمَتْ لاحقًا بأنها أقذر مادة كيميائية عرفتها البشرية. كل هذه أفكار تباينت في غاياتها وطرق تحقيقها، بيدَ أنها أفكارٌ خلدها الحدثان.

الفكرةُ لا تموت، ولا تُقْتَل ولا تنتحر، في حين أن الإنسان الطبيعي يموت، وربما يُقتل وقد تتهاوى معنوياته وينسلِخ من إيمانه، فيُسلِمَ للموتِ أمرَه في حسرةٍ ويأس، ولطالما طوى اليأسُ نفوسًا لم تقوَ على مجابهة تحديات الحياة وصعوباتها، أما الفكرةُ فليست قابلةً للموتِ، أو القتلِ، أو الانتحار.

انظر مثلًا إلى أغناتس سيملفيس Ignaz Semmelweis، هذا الطبيب المجري الأصل النمساوي الجنسية، حصل على درجةِ الدكتوراه في طب النساءِ والتوليد، وباشَرَ عملِه في مستشفى فيينا العام. استرعى انتباهَه أن عددًا كبيرًا من النساءِ يتعرض لحُمى النُفاسِ عَقِبَ الولادَة، وتنطوي صفحاتُ أعمارِهِن سريعًا. ليس الأمر بسيطًا على الإطلاق، يومها كانت حمى النفاس تضاهي سُمعة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الآن!

بلغت نسبةُ وفيات النساء نتيجة حُمى النفاس ما بين (10 – 35%)، وهو مؤشِرٌ خطير وتَطلّب حلًا عاجلًا. أصبحت مشكلة الوفيات الناجمة عن حمى النفاس تُمثِلُ إزعاجًا لا يوصف؛ فجعلَ سيمفليس منها شُغلَه الشاغِل، وقد اشتّدَ به طُموحُه لاستئصالِ هذهِ المشكلة. بالملاحظةِ الدقيقةِ وجدَ أن أحد عنابر المستشفى تصل نسبة الوفيات فيه إلى (10%)، في حين أن العنبر الذي يعمل فيه لا تزيد نسبة وفياتِه عن (2%)، وتوصل إلى أن سبب هذا التفاوت الصارخ يُعزى لعدم الاهتمام بغسل الأيدي.

شرح سيملفيس المسألة لزملائه، فرأوا فيها انتقاصًا من قدرِهم، غالوا في تقدير الموقف، وشخصنوا الأمر، وأهانوا الرجل واتهموه بالخبل، لكن ذلك كله لم ينل منه، هو صاحبُ فِكرة ويستميتُ في سبيلِ تحقيقها، كانت فكرتُه نبيلة وترمي إلى إيقافِ نزيفِ الأرواح، وإنقاذ الأمهاتِ من براثن الموتِ المُحقَق. أصرت فِكرتُهُ على الخروج للنور؛ فعقد ندوات في الأوساط الطبية للتعريف بالمشكلة وعرض الحل الموائم، واقترحَ غسل الأيدي قبل كلِّ عملية ولادة وبعدها باستخدام الجير المكلور.

يومها، لعب الجير المكلور الدور ذاته الذي تلعبه مطهرات الكحول، والترايكلوسان، والبنزالكونيوم كلورايد في محاولة احتواء العدوى. ولإيصالِ فكرتِه للمجتمع كتب في الصحف اليومية، والمجلات العلمية المتخصصة، وألَّفَ كتابًا حول مضمون فِكرَتِه، بل وكتبَ خطاباتٍ مفتوحةً لأطباء النساءِ والتوليد في أنحاءِ القارةِ العجوز، من أقصاها إلى أقصاها. للأسف لم ينتفِعْ بأيٍ من ذلكَ بِحبَةِ خردل، قوبلت أعماله بما قوبل به تحذير طبيب العيون الصيني، لي ون ليانغ.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أبلغ ليانغ (34 عامًا)، وهو أحد أطباء مستشفى ووهان، عن ظهور فيروس في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي، وظن في مبتدأ الأمر أنه نسخة جديدة من فيروس سارس، وقد ظهر في الصين أيضًا عامي 2002 – 2003، وحصد أرواح 800 نفس، وتوسّل ليانغ بوسائل التواصل الاجتماعي لإيصال صوته لزملائه الأطباء، وحذر الجميع من هذا الفيروس الجديد.

لم يدرك ليانغ أنه يوغر صدر الشرطة الصينية، ودفع ثمن ذلك باهظًا، إذ أُجبِر على توقيع خطاب يعترف فيه بأنه سعى لإلحاق "أضرار كبيرة بالنظام العام"، فضلًا عن اتهامه "بترويج إشاعات، وتكدير السلم العام، ونشر معلوماتٍ مُغرضة". لا تظن أن كاتب هذه السطور أغفل نبأ سيملفيس، وأنه قفز من النمسا إلى الصين في غمضة عين، الأمر واحد وستحكم بنفسك بعد ثوانٍ معدودات.

بعد الشرطة، جاء دور المؤسسة الطبية، التي كالت اللوم والتأنيب أشكالًا وألوانًا للرجل، ولم يتخلف مسؤولو الحزب الشيوعي عن ركوب الموجة، ومزقوا ليانغ بتهكماتهم وسلقوه بألسنة حداد. في الأول من فبراير/ شباط الماضي، أعلن مستشفى ووهان إصابة ليانغ بفيروس كورونا المستجد، ولقي حتفه في اليوم نفسه.