بحثاً عن أغنية تليق بمقام ست الحبايب (1/2)

بحثاً عن أغنية تليق بمقام ست الحبايب (1/2)

24 مارس 2020
+ الخط -
للأسف، ليس هناك علاقة عاطفية قوية بيني وبين أغنية "ست الحبايب" التي تدفع الغالبية العظمى ممن أعرفهم ومن لا أعرفهم للإنهيار في البكاء فور استماعهم إليها، وكنت سعيداً حين قام الكوميديان البارع محمد سعد في فيلم (اللمبي) بالإجهاز عليها بإفيه "ست الحبايب يا حنانا إنت". أحترم طبعاً من تذكرهم هذه الأغنية بأمهاتهم الجميلات وبذكرياتهم الحلوة والمرة معهن، وإن كنت في الغالب ستجدهم ينهارون في العياط، حين يستمعون إلى أي أغنية عن الأمهات، حتى لو كانت أغنية "الست دي أمي"، التي لم تكن في حاجة إلى محمد سعد لكي يحولها إلى مسخرة، فمجرد استخدامها بكثافة طيلة فترة التسعينات من القرن الماضي في البرنامج التلفزيوني الشهير للمذيع طارق علام، كشف مناطق "الأفورة" فيها، وجعل من السهل توظيفها للإضحاك في أعمال كوميدية كثيرة، وهو ما يجعلني أحاجج بأن من تؤثر فيهم تلك الأغنيتان، لا يتأثرون بسبب ما يوجد بهما من جماليات فنية، بل فقط لأنها تذكرهم بست الكل، وهو ما سيحدث لو استمعوا إلى أي أغنية تثير الحنين إلى الأمهات وتتذكر أفضالهن التي لا تعد ولا تحصى.

لا أريد أن أبدو متحاملاً على أغنية (ست الحبايب يا حبيبة) التي كتبها الشاعر المتنوع حسين السيد ولحنها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وطمع في غنائها بعد أن غنتها فايزة أحمد، فلن يضيرها رأيي على أية حال، لأن لها زبونها المخلص منذ أن خرجت إلى النور، بالمناسبة لست من الذين يأخذون موقفاً من أغاني حسين السيد ويتهمونه بالميكانيكية الشعرية وفقر الخيال، صحيح أنه ليس من شعرائي الغنائيين الذين أفضل الغالبية الساحقة من أعمالهم، لكنني أحب له كثيراً من الأغنيات الجميلة، يعني "يا مسافر وحدك ـ بيع قلبك ـ ساعة ما بشوفك جنبي ـ بلاش تبوسني في عينيا ـ الكاس بين إيديّا ـ حمّال الأسية ـ الحب جميل ـ القريب منك بعيد ـ عيني بترف يا حبة عيني ـ يا حبيب الروح فين أيامك ـ عاليادي اليادي ـ على رمش عيونها ـ في يوم وليلة ـ خلي شوية عليك"، كلها أغنيات تكفي لتخليده واحترامه، لكن أغنية (ست الحبايب) بالذات تنتمي عندي إلى اللون الغنائي الكوميدي الذي برع فيه حسين السيد حين كتب لثلاثي أضواء المسرح أشهر مونولوجاتهم، وكتب لمحمد عبد الوهاب دويتو "حكيم عيون"، وأغنية "دقت ساعة العمل الثوري" التي لا تقل إضحاكاً في رأيي عن "كوتو موتو يا حلوة يا بطة"، وكتب لفايزة أحمد أغنية الأخ التي أصبحت بفضل مسرحية (حزمني يا) مشهورة بكونها أغنية "يا غالي عليا يا زواوي يا اخويا"، مع أنها لم تكن مكتوبة في الأصل كأغنية كوميدية.


كنت قد قرأت أن حسين السيد كتب أغنية (ست الحبايب) في عشر دقائق، خلال تواجده على السلم المؤدي إلى شقة والدته، حين اكتشف أن يوم زيارته يوافق عيد الأم وأنه نسي أن يحضر لها هدية، فكتب الأغنية لكي تكون هديته لها، ولولا أن الأغنية نجحت وكسّرت الدنيا لسهل علينا اتهامه بـ"الطلسقة الشعرية"، لكن مع ذلك لا أستطيع أن أعتمد هذه القصة الواردة في عدة مصادر كسبب لمشكلتي مع الأغنية، لأنها بعيداً عن النجاح الجماهيري، لا تزال تعني الكثير لكثيرين برغم ظروف كتابتها.

لذلك أعتقد أن الأغنية لم "تسمّع" معي، لأنني لم أجد نفسي في عبارات مثل "زمان سهرتي وتعبتي وشلتي.. من العمر ليالي.. أنام وتسهري وتباتي تفكّري.. وتصحي من الأدان وتيجي تشقّري"، فمنذ أن كنت طفلاً وحتى غادرت بيتنا بعد أن أصبحت شحطاً في سن الضياع، لم أر أمي وهي سهرانة بعد الساعة العاشرة مساء على أقصى تقدير، لأنها سيدة عاملة مكافحة، تصحو من أذان الفجر لا لكي تشقّر على من لا زال يشخّر في عز نومه، بل لكي تبدأ على الفور في عمل سندوتشات الإفطار لي ولإخوتي، ثم تبدأ في الاشتباك معنا في معارك يومية ضارية لكي نصحو و"نتنيل نروح على مدارسنا"، قبل أن تهرع للحاق بموعد دوامها اليومي، وأذكر أنني ناغشتها ذات يوم وسألتها لماذا لم تقم بمطابقة المواصفات القياسية للأم المذكورة في أغنية فايزة أحمد، فيصحو الواحد منا من نومه ليجدكِ "بتيجي تشقّري"، وكان ردها مفحماً جداً، ليس من فرط عاطفيته، بل من فرط واقعيته، "أشقّر على مين ولا مين يا موكوس.. واحدة مخلفة كل العيال دي، لو شقّرت على كل واحد خمس دقايق يبقى مش هتنام ومش هتشتغل ومش هتلاقوا تاكلوا".

بالطبع، لكل أم طريقتها في حمل الهم، وفي الحنيّة على أولادها، ولم يكن من واجب حسين السيد أن يفعل شيئاً سوى الكتابة عن الأم كما يراها وكما يفهم حنّيتها، لكنني أعتقد أن مقام الأم أكبر بكثير من أغنيته التي تربط الأمومة في أغلب مقاطعها بالسهر والهم والتعب والتشقير والشكوى والجمايل، وهي صورة أقرب إلى صورة الأم كما جسدتها السينما المصرية في الأربعينات والخمسينات، حين كانت ست الحبايب هي ست البيت في المقام الأول والأخير، أما الأم العاملة الشقيانة ذات المليون مهمة والألف دور، "الملتي تاسكينج" بالعربي الفصيح يعني، فربما لن تجدها في هذه الأغنية، التي كان تأثيرها الجماهيري طاغياً، لدرجة أن عبد العزيز سلام كتب في عام 1959، العام التالي مباشرة لظهورها، أغنية أخرى تحمل عنوان "أحن قلب في الدنيا قلبك انتي يا أمي"، لحنها العظيم محمد فوزي وغناها مع نازك في فيلم (كل دقة في قلبي).

أزعم أن لحن محمد فوزي أرق وأحن بكثير من لحن محمد عبد الوهاب، لكن كلمات الأغنية خذلته، لأنها لم تخرج من فلك المعاني الموجودة في أغنية حسين السيد، إلا حين اختارت أن توجه تحية متعجلة للأب في المقطع الذي قال: "ربيتي أختي.. كبّرتي أخويا.. تعيشي ليا.. انتي وأبويا"، وهو تواجد تشعر أن القافية هي التي حتّمته، أكثر من غيرها، وحين اختارت أن تلتفت إلى أهمية السلاح الأمومي الفتاك المعروف بالدعاء فقالت: "والدعوة منك يسمعها ربك انتي يا أمي"، لكن الصياغة الركيكة للعبارة أعطت انطباعاً أن الابن يذكر أمه في الأغنية بأنها من ديانة مختلفة وتعبد رباً مختلفاً عنه، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بأمل استجابة الدعوة، لأن ذلك سيصب في صالحه بالتأكيد.

.....

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.