أزمة الحوكمة... المسمار الأخير في "نعش" الثورة السودانية

أزمة الحوكمة... المسمار الأخير في "نعش" الثورة السودانية

23 مارس 2020
+ الخط -
باتت أزمة الحوكمة سمة ملازمة للنخب السياسية في الحكومة والمعارضة على حد سواء. فالحوكمة باختصار تشير لطريقة اتخاذ وتنفيذ القرارات. أما في ما يتعلق بالدولة، فهي تشمل الإطار المؤسسي الذي يحدد من يحصل على ماذا وكيف.

من هذا المنظور، فعلى الرغم من أن الحكومة الانتقالية قد أعلنت عن 10 أولويات خلال الـ200 يوم الأولى من الحكم، تصب جميعها في مسار الحكم الرشيد وتعزيز الديمقراطية -من ضمنها مكافحة الفساد- إلا أنه ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه لا فرق يذكر ما بين سياسات النظام السابق وحكومة الثورة.

فعديد القرارات التي صدرت مؤخراً قد تم التراجع عنها أو معالجتها بقرارات أكثر فداحة. على سبيل المثال، أصدرت وزارة التجارة والصناعة قراراً سياسياً مفاجئاً بمنع الأجانب والمجنسين من التجارة في السودان، تلاه قرار آخر بمنع تصدير الفول السوداني، ثم إغلاق عدد من الصحف والقنوات الإعلامية، بدون أمر قضائي، بزعم ولائها للنظام السابق. ومؤخراً، أعلنت السلطات السودانية عن إغلاق المعابر البرية والجوية من دون إعطاء فسحة من الوقت لشركات النقل والمسافرين لتوفيق أوضاعهم.

كل هذه القرارات، والتي تم التراجع عنها، أو تعديلها لأسباب سياسية وقانونية، تشير لخلل منهجي في طريقة اتخاذ وتنفيذ السياسات العامة للدولة، والتي كثيراً ما تتّسم بحس ثوري لا يتناسب مع صنعة الدولة وسياساتها العامة.

نفس الأمر ينطبق على آلية التعيين -الخفيّة- بجهاز الخدمة المدنية. فالشاهد في الأمر أن طريقة الإحلال والإبدال خلال الشهور الماضية تشهد حالة من الفوضى المقننة. فقرار إعادة المفصولين للصالح العام نتيجة سياسة التمكين التي انتهجها نظام الإسلام السياسي عقب الانقلاب العسكري في عام 1989، والذين يفوق عددهم المئات، لدولاب الخدمة المدنية، يوحي بأن العقلية التي تدير البلاد ما زالت عاجزة عن بناء رؤية للمستقبل. فبعيدا عن حالة الترهل الوظيفي في القطاع العام والأزمة الاقتصادية الخانقة، فإن إعادة آلاف المفصولين تعسفاً، والذين يتراوح متوسط أعمارهم ما بين (50 - 60 عاما)، على أقل تقدير، في دولة يافعة تشكل الشريحة العمرية ما دون (40 عاما) حوالى (%70)؜ من مواطنيها، مؤشر لأزمة بالغة في التخطيط الاستراتيجي.


الشاهد في الأمر، أن من بذلوا حياتهم رخيصة في سبيل الثورة، ووقفوا عليها حتى استوى عودها، لم يحصدوا -بعد مرور عام على سقوط النظام- سوى بعض الذكريات وكثير من المرارات. فما زالت معدلات البطالة وسط الشباب في ازدياد مطّرد.

أشار آخر تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية إلى استشراء الفساد في القطاع العام في السودان، وفقاً لاستطلاع عن أدائه خلال العام المنصرم. وأشار التقرير إلى أن ما يفوق 80%؜ من المواطنين أكدوا فشل الدولة في الحد من الفساد..

استبشر الجميع، بمن فيهم كاتب هذه السطور، بسقوط النظام، ولكن هل تغير الأمر؟ لا! فالفساد لم يعد شأنا عابراً في السودان، بل أصبح ظاهرة متغلغلة في الدولة والمجتمع.

فظاهرة الفساد ما هي إلا مؤشر لأزمة الحوكمة وفشل السياسات العامة. وفقاً لدراسات حديثة في هذا المجال، فإن العوامل المحفزة على الفساد تندرج تحت نموذجين: الأول هو نموذج الوكيل والموكل، حيث تنحصر فيه مسببات الفساد في العلاقة ما بين المواطن والمسؤول الحكومي أو السياسي، وهو ما يتعارف عليه في العلوم السياسية (principle-agent model).

أما نموذج الفعل الجمعي (Collective action model) والذي تتسم به أغلب الدول النامية، تلك التي ترزح تحت وطأة أنظمة غير ديمقراطية، فمحفزات الفساد تتخذ بعداً مؤسسياً وتسود على منهج الدولة وقيم المجتمع، بحيث يخدم نظام الحكم (Patrimonliasm) قلّة من المجتمع على حساب الجماعة.

وضع الفساد في السودان يندرج تحت النموذج الأخير، حيث أن تجاوز القوانين واللوائح العامة واستغلال السلطة الموكلة للمنفعة الشخصية يظل القاعدة لا الاستثناء. فالقفز على القوانين واللوائح المنظِّمة للشأن العام، كقانون الخدمة المدنية، والذي يؤكد وجوب الحصول على الوظائف القومية عن طريق المنافسة الحرة عبر المقابلات الشخصية أو مراكز الاختبارات المتخصصة، يعيد إنتاج سياسة التمكين التي اتبعها نظام الإسلام السياسي والتي أدت إلى انهيار جهاز الخدمة المدنية.

فسياسة التعيينات في حكومة الثورة تفتقد لمعايير واضحة، فتارة يتعلق الأمر بالروح الثورية والعزم على تفكيك النظام السابق، ثم الالتزام بإعلان الحرية والتغيير، ومؤخراً بالرصيد النضالي. فصارت الوظيفة العامة مكافئة وحق من يملك لمن لا يستحق.

تنطبق هذه الكوميديا السوداء على مقولة للأكاديمي "جويل ميقديل" مفادها بأن من يتحصل على الدولة يتحصل على كل شيء.

نفس الأمر ينطبق على قضية شركة الفاخر والتي تحصلت على امتياز تصدير الذهب مقابل توفير شحنات من السلع الاستراتيجية، كالوقود والقمح، في ظل عدم قدرة الدولة على استيفاء المبالغ المالية المطلوبة في وقتها.

أثارت القضية قلقاً بالغاً نسبة لتجاوز وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لقانون المشتريات، والتعاقدات والتخلّص من الفائض لعام 2010، والذي يؤكد وجوب خضوع عملية التعاقدات لكافة اشتراطات الشفافية والمنافسة الحرة، لتلافي التلاعب في العطاءات. على الرغم من أن تآكل مخزون السلع الاستراتيجية هو ما اضطر الدولة لتجاوز القانون، إلا أن الذي ترتب على هذه الأزمة ما هو أفدح، وذلك بترسيخ نظام مؤسسي غير منصف.

ما يعني القارئ في شأن أزمة الحوكمة في السودان أنها لا ترتبط بنهج سياسي ما، أو طبقة معينة، أو إثنية محددة. فسقوط نظام الإسلام السياسي لا يعني -بأي حال- انقضاء عهد الفساد، لا لشيء سوى لارتباطه الوثيق بطرائق اتخاذ وتنفيذ السياسات العامة للدولة، بغض النظر عن دوافعها ومحدداتها.

في حقيقة الأمر، فإن تزايد معدل الفساد يشير لوقوع الدولة في براثن التخلّف. لقد أشار المفكر الألماني ماكس فيبر إنه فقط في الدولة الحديثة لا تكون المناصب العامة مصدراً للثراء واستغلال السلطة. عليه، يمكن استقراء الوضع في السودان باعتباره دليلاً دامغاً على غياب الدولة الحديثة: دولة المواطنة المتساوية والمؤسسات.

ختاماً، لا يتملكني أدنى شك في عفّة أغلب من تسنّم، أو يطمح، لمنصب عام في الدولة، لخدمة الثورة، والمساهمة في كتابة مستقبل مشرق للسودان. ولكن كما قيل في الحكمة الإنكليزية، فإن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة. ربما آن الأوان لقادة التغيير في السودان أن يعوا بأن بذرة انهيار نظام الإسلام السياسي لم تنفتق إلا بعد أن سقتها أمطار الفساد.