كورونيات

كورونيات

22 مارس 2020
+ الخط -
ـ عن هذه اللحظة الفريدة والغريبة في حياتك، التي تتمنى أن يكون لدى البهائم التي تقود البلاد، كل البلاد، إحساس البهائم بالمسئولية، والكفاءة المنبعثة من غريزة البقاء لا أكثر ولا أقل. 

ـ حين وقفت في طابور استلام الأدوية في الصيدلية، لاحظت أن الطابور يقع في الممر المخصص لأدوية البرد والسعال، بصراحة قلقت، لكني لم أعترض فقد كان الطابور أطول من أن أقترح تغيير مكانه، لذلك اكتفيت بترك مسافة بيني وبين من يقف أمامي، لعل ذلك يشكل قدوة لمن يقف خلفي، ليتضح لي بعد لحظات أن المشكلة الحقيقية ليست فيمن يقف أمامي أو خلفي، بل في من يأتون كل قليل للبحث عن أدوية البرد والسعال، وهم إما يسعلون أو تظهر عليهم أعراض البرد برغم اجتهادهم لإخفائها.

أخذت أتبادل النظرات القلقة مع بعض شركاء الطابور، لكنها ظلت نظرات صامتة، حتى جاءت سيدة ترتدي كمامة ووقفت أمام فاترينة زجاجية وضعت خلفها بعض الأدوية الأغلى ثمناً، والتي يُغلق عليها بقفل لكي تصعب سرقتها على المحتاجين إليها، وبعد أن سعلت السيدة سبع مرات، داست على زرار مثبت بالفاترينة لاستدعاء أحد موظفي الصيدلية لكي يفتح لها الفاترينة، ليدوي في أرجاء الصيدلية صوت أتوماتيكي مزعج يطلب ذهاب موظف لخدمة الزبائن إلى ممر أدوية البرد والسعال، وبعد أن تكرر النداء مرتين، عاد الصمت ليعم المكان للحظات، وحين عادت السيدة للسعال، دوى صوت سيدة عجوز غاضبة تلعن سنسفيل من اختار هذا الممر اللعين ليكون مكاناً للطابور، وحين لم يستجب أحد لرغبتها في نقل الطابور إلى ممر آخر، خوفاً من لخبطة أدوار الطابور، وجهت نظرات كارهة إلى الجميع وقالت بغضب:

 "Social distance my ***" وعاد الصمت من جديد في انتظار النداء على صاحب الدور.   

ـ من كان يتصور أن تقديرك لقوة إرادتك وقدرة نفسك على التحكم سيرتبط باللحظة التي تمر فيها ساعة كاملة دون أن تقوم بلمس وجهك؟ 

ـ بحكم خبرة السبعة آلاف سنة، وقبل الأوبئة والعزل الصحي بكثير، عرفت ستات مصر قيمة دعاء "ربنا يكفينا شر قعدة الراجل في البيت". 

ـ بالتأكيد، هذا ليس الوقت المناسب للاتصال بصديقك طبيب الأمراض الجلدية لكي تسأله عن حل نهائي لمشكلة قشرة الشعر، على الأقل راعي موقفه أمام زملائه أطباء التخصصات الأخرى الذين يتلقون الآن أسئلة أخطر وأكثر إثارة، وإذا كنت يعني مصمماً على ألا تقابل الله بقشرة في شعرك، فاتصل بصديقك واسأله أولاً بمنتهى الجدية عن دور الجلد في تقوية المناعة، وما إذا كان الطفح الجلدي من أعراض الإصابة بفيروس كورونا، ثم هات سيرة القشرة في وسط الكلام. 

 ـ أمي الحبيبة: أسف جداً على العبارات المنفعلة التي قلتها بحق الثوم في مكالمتنا الأخيرة، يهمني أن تعرفي يا ست الكل أنني لا أملك ضغينة ضد الثوم كنبات له احترامه، فكل ما هنالك أنني شعرت أنه أخذ حجماً أكبر من اللازم في حياتنا، وأنك تنسبين له أحياناً قدرات خارقة، فتحملينه أكثر من طاقته في مقاومة الأمراض والأوبئة. على العموم شعرت بتأنيب الضمير حين تصورت أنك يمكن أن تكوني قد أخذتي على خاطرك وتصورتِ أنني أستهين بخطتك لمكافحة الأوبئة، لذلك توجهت إلى الثلاجة وبلبعت فصّين ثوم من غير مناسبة. مع خالص المحبة والأشواق. 

 ـ لم يعد السلام بالكوع أو بالقدمين حلاً مضموناً في مواجهة زحف الكورونا، لأن هناك كثيرين يستخدمون كوعهم في استدعاء المصاعد أو إضاءة أنوار الغرف، وهو ما يشكل فرصة لانتقال الفيروسات من كوع إلى آخر، وإذا كان الأطباء يوصون بخلع الأحذية قبل الدخول إلى البيت إذا كنت تضمن جيرانك، وفور الدخول إلى البيت إذا كنت لا تضمنهم، فكيف نسمح لأنفسنا بالسلام بالأحذية. أنا من الذين يعتقدون أن السلام البدني مبالغ في تقدير أهميته، باستثناء سلام الشفايف الذي قال عبد الحليم حافظ إنه "أحلى سلام"، لكنه الآن مكلف وملابساته معقدة، لذلك أعتقد أن أضمن سلام لمن لا يستطيعون التخلي عن التلامس البدني خلال التحية، هو سلام قدمته مصر للبشرية منذ قديم الأزل ووثقه قدماؤها على حوائط المعابد، أعني سلام العوالم، الذي يحدث فيه ارتطام خفيف للمؤخرتين مع التفاتة ضاحكة أو بدونها، وهو يصلح في نفس الوقت سلاماً واختباراً مجانياً للميول الجنسية. 

ـ فجأة وأنت تغسل يديك للمرة العشرين، تتذكر جملة "هنادي أخدها الوبا" التي وردت قديماً في فيلم (دعاء الكروان)، وتدرك أنها تحولت فجأة من إفيه إلى كابوس، فتغسل يديك للمرة الحادية والعشرين وأنت تدعو "كمّلها بالستر معانا يا رب". 

ـ إذا كان انتشار عبارة "الحب في زمن الكورونا" يزعجك، فاحمد ربنا لأن الدنيا تغيرت وازداد فيها الإحساس بالمسئولية ولذلك لم تنتشر بعد عبارة "كورونا تجدوا ما يسركم". 

ـ بالأمس حمدت الله لأن بناتي كبرن وأصبحن في سن كراهية التقبيل والأحضان، ودعوت لآباء الأطفال تحت تلك السن بالصبر والسلامة. 

ـ فجأة أعاد الواقع الاعتبار للحكم القديمة التي ظلمها وجودها الدائم على جدران المدارس وأغلفة الكشاكيل وأطراف النتائج والأجندات، من باب أن "المبذول مملول". فهانحن نكتشف أن عبارة "اغسل يديك قبل الأكل وبعده" لم تعد كافية، وأننا محتاجون إلى أن نغسل أيدينا قبل الهرش وبعده، وهاهي عبارة "الوقاية خير من العلاج" تتحول من بند المحفوظات إلى أهم عبارة يمكن أن يتم بفضلها حفظ الوجود الإنساني. 

ـ للأسف، فشلت كل محاولات استخدام أغنية السيدة فيروز "خليك بالبيت" لإقناع ملايين المواطنين المنفلتين بالبقاء في بيوتهم، وهو ما يتطلب إنتاج نسخة جديدة أكثر صرامة من الأغنية يبدأ مطلعها بعبارة "خليك بالبيت يا سي خ** منك ليه".  

ـ لم أستغرب حين سمعت أكثر من مواطن في إحدى مدننا المصرية الحبيبة الأبية العفية الصامدة الباسلة، وهم ينفون انتشار فيروس كورونا اللعين بينهم، مرددين عبارات من نوعية "إحنا رجالة مية المية وكل شيء تمام"، فالتعامل مع المرض بوصفه ضعفاً لا يليق بالذكور الأقوياء الفحول، فكرة قديمة وراسخة في تفكيرنا الشعبي، وهي فكرة يمكن التسامح معها في أي وقت إلا في زمن الأوبئة، لأن تأثيرها سيكون مهلكاً وفتاكاً.  حين فكرت في سر انتشار التعامل مع فيروس كورونا بوصفه أمراً لا يصح للأقوياء الأشداء الاعتراف به، تصورت أن يكون لذلك علاقة بالدراسة التي نشرت مؤخراً عن تأثير الفيروس اللعين على الخصيتين، وهي دراسة ساهمت الكوميكس والميمز في انتشارها أكثر من غيرها، ولذلك ربما كان الحل لمقاومة شعور البعض بأنهم أرجل وأقوى من الإصابة بالفيروس، أن يتم عمل قائمة برموز المرجلة والشبحنة والفتونة الأكثر شعبية في خيال ذكور شعبنا الحبيب، لكي يشتركوا في حملة مقروءة ومرئية ومسموعة تؤكد أن المرجلة والشبحنة والفتوة لا علاقة لها بالمرض، وإلا لما أصيب بفيروس كورونا لفيف من فحول السينما والرياضات العنيفة، ومن يدري ربما اضطررنا مع تفاقم الأوضاع إلى إنقاذ البشرية باللجوء إلى نجوم أفلام السكس لكي يقوموا بعمل فيديوهات توعية يحكون فيها عن ذكرياتهم مع المرض والتعب والإرهاق أثناء التصوير وقبله وبعده، على أن يكون لهذه الفيديوهات شعار موحد غير جارح أو عدائي لكي لا يأتي بعكس هدفه، مثل شعار "فكّر بدماغك مش ببتـ***". 

ـ بينما الجميع في السوبر ماركت حريصون على لمس الأشياء بقفازاتهم أو بأكواعهم أو بركبهم وأحياناً بظهورهم، رأيت فجأة طفلين جميلين وقد انهالا لحساً في ذراع السلم الكهربائي وانهمكا في تبادل السوائل معه، يعني من فتحات مناخيرهم إلى ذراع السلم والعودة، وأمهما تراقبهما وعلى وجهه فرحة تشبه "فرحة الأهبل ببربوره"، لأقرأ على وجوه من حولي أسئلة تتصارع داخلهم عن جدوى التطوع بإرشاد الأم إلى خطورة ما يحدث، لأن الطفلين يمكن أن يصابا بالفيروس وينقلاه لها أو لأي فرد في العائلة تكون حالته الصحية خطيرة، ثم أدركت أن هذه النصيحة تدخل بالضرورة تحت بند الهالك، فأنا وكل من حولي كان لدينا أطفال في سن اللعق العام لكل ما يحيط بهم، والبربرة الشاملة على كل ما يحيط بهم، ولذلك لم أجد ما هو أفضل من الدعاء والابتهال إلى الله تعالى أن يحفظ كل الأطفال ويقوي مناعتهم ويكفينا شرهم.  

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.