صفحة من تاريخ العفن الهادئ

صفحة من تاريخ العفن الهادئ

03 مارس 2020
+ الخط -
فجأة ودون مقدمات تحول مصطفى أمين لدى الصحف الحكومية من كاتب وطني كبير يستحق الاحترام والتقدير، إلى كاتب مخرف يستغل الحرية التي منحها الرئيس للمصريين أسوأ استغلال.

كان ذلك في ربيع عام 1984، حين كانت مصر تستعد لأول انتخابات نيابية في عهد رئيسها الجديد حسني مبارك، لم يكن الهجوم على مصطفى أمين جديداً على الصحف والمجلات الحكومية، فقد سبق أن حدث ذلك في عهد الرئيس أنور السادات، حين خرج مصطفى أمين على الخط الذي رسمه له السادات، وتكررت مشاغباته فيما يكتبه في صحف أخبار اليوم، وهو ما أثار عليه غضب السادات الذي اتهمه بنكران الجميل، وبنسيان أنه أخرجه من السجن ورد إليه مكانته واعتباره، وبعد فترة من تكرر منع مقالات مصطفى أمين داخل مصر، والسماح له بنشرها خارج مصر فقط، أتاح نظام مبارك لمصطفى أمين الحرية في أن يرفع سقف كتاباته شيئاً فشيئاً، بشكل جعله يكتسب الكثير من المعجبين الذين لم يعودوا يتعاملون معه بوصفه مداناً سابقاً في قضية تجسس في ظل عهد عبد الناصر، بل بوصفه أبرز صوت مدافع عن الحريات في الصحافة المصرية.

في عددها الصادر بتاريخ 18 إبريل 1984 قدمت صحيفة (الأهالي) قراءة في أسباب الهجوم الحكومي على مصطفى أمين، تحت عنوان (أخبار مصطفى أمين الممنوعة)، ومع أن القراءة لم يتم توقيعها، إلا أنك إذا كنت من محبي أسلوب الكاتب الكبير صلاح عيسى، وقد كان وقتها مدير تحرير (الأهالي) وأبرز كتّابها، ستجد بصماته حاضرة في تلك السطور التي أترك نصها بين يديك الآن، وأرجو أن تضمها إلى ملف تاريخ الصحافة الحكومية في مصر الذي سبق أن قلّبنا في العديد من صفحاته في مناسبات سابقة، ليعيننا ذلك على فهم النهاية المهينة التي وصلت إليها هذه الصحافة الآن، وهي نهاية لم تكن مفاجئة ولا غريبة كما يدعي البعض:

"اختلف الناس في أسباب الهجوم الحاد الذي شنته خلال الأسابيع الماضية صحف الحكومة على الصحفي الكبير مصطفى أمين. البعض قال أن مصطفى أمين يظاهر بما يكتبه يوميا حزب الوفد ويدعو له، وأن هذا قد أثار الحزب الوطني الديمقراطي، فأعطى د. فؤاد محيي الدين الضوء الأخضر، وبدأت حملة الهجوم على صاحب فكرة الأخبار. وقال آخرون أن ما يكتبه مصطفى أمين وعدد قليل آخر من كتاب صحف الحكومة من مقالات تحرج زملائهم العاملين في نفس الصحف وتحرقهم أمام الرأي العام، لأنها تضعهم في خانة المنافقين الحريصين على مكاتبه وليس الكتاب المعبرين عن مواقف ورآراء.
السبب الذي لم يذكره هؤلاء أو أولئك، هو أن بين مصطفى أمين والحزب الوطني الديمقراطي حكاية لا يعرف الناس في مصر كل تفاصيلها ولم يقرأوا سوى جانب واحد من أخبارها، أما الجانب الآخر، فإن مصطفى أمين قد أذاعه في بداية هذا العام في كتاب عنوانه (أفكار ممنوعة)، لم يتضمن نصوص ما كتبه الصحفي الكبير ولم ينشر في عهد ديمقراطية السادات فقط، ولكنه تضمن أخبار مصطفى أمين الممنوعة.

وليس من المصادفة أن يبدأ الحزب الوطني حياته بقرار من مناحم بيجن رئيس وزراء إسرائيل، الذي قال للسادات إبان المشاورات التي سبقت مفاوضات كامب ديفيد إن اتجاهاتك للسلام مع اسرائيل ليس وراءها حزب في مصر يحميها إذا غبت عن الساحة السياسية، وأن حزب مصر الحاكم أيامها قد فوجئ بقرارك بزيارة القدس، ولم يبد حماساً كافيا لها، وأراد السادات أن يثبت لمناحم بيجن خطأه، فقرر أن يشكل حزباً برئاسته، وأعلن تشكيل الحزب قبل أيام من سفره إلى مؤتمر كامب ديفيد. وليس من المصادفة أن يبدأ الحزب الوطني ديمقراطيته بالاعتماد على نفس النواب الذين أيدوا كل الحكومات وأن يرحب بنواب حزب مصر الذي كان يحكم حين هرولوا إليه قبل أن يتألف الحزب، وكانت الخطوة الديمقراطية الثانية هي منع مصطفى أمين من الكتابة لأنه انتقد هرولة النواب للحزب الجديد.

عرض موسى صبري على مصطفى أمين أن يكتب الفكرة في موضوعات إنسانية وليست سياسية، رفض مصطفى أمين وقال له: لست عيّاشاً (ربما كان يقصد أرزقياً) لكي أكتب بهذه الشروط من أجل لقمة العيش، وحين تتالت تليفونات القراء تتساءل عن أسباب اختفاء عمود فكرة، أصدر موسى صبري تعليمات لعمال تليفونات الأخبار بأن يردوا بأنهم لا يعرفون. وألقى السادات خطاباً في مدينة تلا أعلن فيه ترشيح نفسه لعضوية الحزب الجديد، وانهال هجوماً على مصطفى أمين لأنه أهان مجلس الشعب، مع أنه هو ذاته المجلس البطل الذي ساند ثورة 15 مايو، ونسي السادات أنه حل هذا المجلس البطل، وأن انتخابين عامين قد أجريا بعد حله، ونسي أنه أهان مجلس الشعب في خطب علنية ألقاها أمامه، وزجر النواب وقال أنهم يستخدمون السباب والبذاءات في المناقشات البرلمانية، وهاجمهم لكثرة الاستجوابات والأسئلة وتزويغ الأعضاء. وقال منصور حسن أنه ذهب للسادات قبل القاء خطابه في تلا وتحدث معه لمدة نصف ساعة في الأثر السيئ الذي تركه حرمان مصطفى أمين من الكتابة على الرأي العام، ومع ذلك خصص السادات خطابه لمهاجمة مصطفى أمين، مع أنه لم يسبق أن خصص خطاباً كاملاً لمهاجمة فرد حتى ولا مناحم بيجين!

وتطوع فكري مكرم عبيد ـ الأمين العام للحزب الوطني آنذاك ـ ليشارك في الحملة على مصطفى أمين، وقال مصطفى أمين إن فيكتور مكرم عبيد كان فعلا زميله، وأن كل علاقته بالوطنية أنه غير اسمه من فيكتور إلى فكري وأثناء صراع الطلبة مع أهل الحرية والدستور، كان يبتعد عن كل صراع مكتفياً بأنه شقيق المجاهد الكبير مكرم عبيد باشا، وفي نهاية حياة مكرم عبيد وهب البيت الذي يقيم فيه بمصر الجديدة للأمة المصرية على أن تقيم فيه زوجته السيدة عايدة مدى حياتها، وفوجئ مكرم بأن شقيقه الذي رباه صغيرا وأنفق عليه وغمره بعطفه، يرفع قضية عليه، يتهمه بأنه أصيب بالعته والجنون، ويطلب الحجر عليه لأنه سفيه لا يؤتمن على ماله، ويدلل على سفاهته بأنه يريد أن يهب بيته إلى الأمة المصرية، وليس لشقيقه فيكتور الذي ورث الأطيان والأموال وطمع في البيت، حتى ولو حطم في سبيله سمعة شقيقه الأكبر في شيخوخته.


واتصلت جيهان السادات بمصطفى أمين تليفونيا في بيته وقالت له: لقد أخطأت، لأن السادات لا يستطيع أن ينسى أن هؤلاء المهرولين هم الذين فصلوا من أجله أبو العز الحريري وكمال الدين حسين، وهكذا اندفع رؤساء التحرير يكتبون عن الإيجابيات، حتى أن مجلة المصور ـ التي كان يرأس تحريرها صبري أبو المجد ـ فعلت ما لم تفعله مجلة في الشرق أو الغرب ـ فظلت تنشر صورة السادات على غلافها لمدة عام كامل إلا بضعة أسابيع. ولم تكد تمر شهور على تأسيس الحزب الوطني حتى فصل أحد النواب المهرولين لأنه اعترض على منح السادات حق اللجوء السياسي لشاه إيران لمخالفة ذلك للدستور، فطرد النائب في اليوم التالي، لأنه خالف مبادئ الحزب الوطني، كأن مبادئ هذا الحزب هي أن يخالف العضو ضميره!

وكانت النتيجة أن السادات استعان بمجلس المهرولين، حتى أصبح ترتيب فكري مكرم عبيد نائب رئيس الوزراء في البروتوكول قبل ترتيب صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب، وحين أثيرت المخالفات المنسوبة لمحمد توفي عويضة أمين مجلس الشئون الإسلامية في مجلس الشعب، وأصدرت المحكمة التأديبية العليا قرارها بإحالته للمعاش بسبب الجرائم التي ارتكبها في منصبه، لم يهتم السادات لا بمجلس المهرولين، ولا بأحكام القضاء، وعين توفيق عويضة أمينا للشئون الدينية في الحزب الوطني! وهكذا تنكر حزب المهرولين لكل مبررات إنشائه ووعود زعيمه حين أسسه، فقد قال أن مناصب الحزب ستكون كلها بالانتخابات فجاءت كلها بالتعيين، وقال أنه لن يأخذ قرشا من الحكومة فلم يأخذ إلا منها، بل وفتح اعتماداً بمبلغ نصف مليون جنيه من الميزانية الطوارئ وضعت تحت تصرف فكري مكرم عبيد أمينه العام آنذاك".

لم يستمر هجوم صحف الحزب الوطني على مصطفى أمين بنفس الحدة بعد ذلك، فقد أدرك نظام حسني مبارك أن وجود أقلام مصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وجلال الدين الحمامصي ومحمود السعدني وصلاح عيسى وصلاح حافظ وغيرهم تحت السيطرة في صحف قومية كبرى مثل (الأخبار) و (الأهرام) و (الجمهورية) أكثر فائدة من وجود أقلامهم في صحف المعارضة أو في الصحافة العربية خارج مصر، خاصة أن تجربة النظام في التعامل مع أول مجلس نيابي منتخب، أثبتت إمكانية هندسة الانتخابات بشكل يجمع بين التزوير واستغلال العصبيات والعلاقات العائلية والعشائرية والتلويح بالعصا والجزرة، لتخرج مجالس نيابية يستفيد منها النظام الحاكم على المستوى المحلي والدولي، ويصبح التعامل مع الأحزاب مسئولية مباشرة لجهاز أمن الدولة الذي حرص ضباطه على الانتظام في حقن الأحزاب بأجسام مضادة للحيوية، تكفل تحويلها إلى كائنات عالية الضجيج منخفضة التأثير، لتتحول برغم كل شعاراتها وكوادرها إلى كيانات كرتونية تفيد النظام أكثر مما تضره.

تم تطبيق الوصفة ذاتها وبنفس المقادير في حالة الصحافة، بعد أن أدرك نظام حسني مبارك أن استفادته من شعار "لم يُقصف في عهده قلم ولم تُغلق صحيفة" أكثر فائدة من التحكم الكامل في الصحافة مثلما كان يحدث في عهدي عبد الناصر والسادات، ومن هنا بدأ يتكون إدراك حسني مبارك للمعارضة السياسية والصحفية بوصفها تسلية، وهو ما تجسد في واحد من آخر الشعارات التي ميزت عهده الطويل: "خليهم يتسلوا"، وهو ما أدرك خطئه من بعده نظام السيسي الذي رفع شعار "عبد الناصر كان محظوظ بإعلامه"، وعاد لفرض السيطرة الحديدية على المجال العام والصحافة والإعلام والأحزاب، ليبدو الآن وجود قلم عاقل ومدافع عن الحريات العامة مثل مصطفى أمين حلماً بعيد المنال، وليعاود ملايين المصريين الحنين إلى العفن الهادئ، لأن ما يحدثه من غرغرينا زاحفة على الجسد، صار يبدو لهم الآن أفضل من نوبات الآلام الحادة التي يعانونها كلما استمر "الحفر على الناشف".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.