هزيمة حزيران... الهستيريا الجماعية

هزيمة حزيران... الهستيريا الجماعية

18 مارس 2020
+ الخط -
مقارنة بين صورتي الهزيمة في روايتي حليم بركات ونجيب محفوظ

نكسة؟! أم هزيمة؟! وإذا كانت هي الهزيمة بحذافيرها، فما هي الأسباب وراء تلك الهزيمة؟ ومن المسؤول عنها؟ الفرد أو الحاكم؟ أم هي مجرد حسم إلهي لا غير وعلى ذلك تصدق عقيدة "الإيمان بالقدر خيره وشره"؟!

هكذا بدت تساؤلات وبكائيات الأدب العربي -من مختلف التيارات السياسية والأدبية- عن حادثة 1967 التي أدت بخسائر عسكرية فادحة للمجتمع كما يرويها التاريخ. ومن جهة أخرى، لا يرى بعض المفكرين أنها خسارة على المستوى التكتيكي وحسب، ولكنها أيضاً هزيمة رسمية على مستويات أخرى، حتى أنه استبق أحداثها بعض الكتاب. ففي روايتي "عودة الطائر إلى البحر" و"ثرثرة فوق النيل"، يسرد كل من حليم بركات ونجيب محفوظ هزيمة حزيران من منطلقين؛ عقائدي وأخلاقي.

رمزياً، يفسر الروائيان حدث حزيران على أنه كان محتوماً ولا سيما إيديولوجياً. فالأنظمة الحاكمة آنذاك كانت تتبنى النظام الديكتاتوري الذي لم يسمح بحريات الفرد ومشاركته، مما أدى إلى تفرده ونفيه فكرياً.

وتبرز معالم تلك الممارسات القمعية في رواية "ثرثرة فوق النيل" عندما يقول نجيب محفوظ (1966) -على لسان الشخصية الروائية- "لم يكن عجيباً أن يعبد المصريون فرعون، ولكن العجيب أن فرعون آمن حقاً بأنه إله".


فتشبيه نظام الحكام آنذاك لنظام فرعون يجعل القارىء يصور سياسية "فرعون" القمعية بأنها لا تجدي بالنفع ومصيرها النهائي هو الخسران والهلاك لمن يتبعها. الرمزية هنا تشير إلى الغطرسة التي انتهزها الساسة المصريين في الحكم، فكمنت فكرة الطبقية التي لم يتساوى فيها الشعب والحاكم. كما أيضاً يصف نجيب محفوظ تحركات الفرد باضطراب شخصي ناتج عن "النظام الفرعوني".

هذا الاضطراب الذي هو يعتبر اعتماد كلي "عبودية" على النظام جعل الفرد غير كفء وفَعَّال في المجتمع مما أدى إلى هزيمته معنوياً وقد كاد يكون فكرياً أيضاً.

أما في رواية "عودة الطائر إلى البحر"، يضيف حليم بركات في تفسيره عن إيديولوجية الحكم العربي على أنها دكتاتورية حقاً -كما أشار إليها نجيب محفوظ- ولكنها بالأخير كغيرها من الأنظمة السياسية الأخرى -الغربية كانت أم الشرقية- لم تحترم الفرد.

فالأنظمة الديمقراطية كذلك لا تضمن الحرية الكاملة للأشخاص. فيظهر حليم بركات طوال روايته وكأنه متسائل: كيف للأيديولوجيات السياسية التي تدعي المقاومة وهي في نفس الوقت لا تحترم كيانها (الفرد) الذي هو مبدأ المقاومة وغايتها؟! تقول باميلا -وهي شخصية رمزية في رواية حليم بركات- "القيم نفسها لا تنسجم مع نفسها"، "المؤسسات تريد أن تحولنا إلى آلات. تسلبنا حريتنا.. ثم أن عندنا في أميركا سباق فئران. سباق لا أهمية فيه للمتسابقين. المهم هو الركض. المهم النجاح. (حليم بركات- 2000)".

وانتقالاً إلى الناحية الأخلاقية، يناقض حليم بركات فكرة الحرب موضوعياً. فهو يرى فيها الهزيمة الأخلاقية التي نتجت عنها آلآم للمستضعفين لا غير. فالهزيمة على حد تفسيره هي هزيمة على مستوى القضية الكبرى (قضية فلسطين)، فهي لم تجلب إلا المعاناة والموت كما جلبت لـ"طه" الذي ترك للنابالم تحرق جسده كمثل "راهب في الفتنام" و"محمد" الذي تم تجنيده في الحرب وهو لا يزال قاصراً و"أم خالد" الكبيرة العاجزة في السن التي تركها إبنها وحيدة وأصبح محارباً.

ولكن على خلاف حليم بركات، يتطرق -نجيب محفوظ في روايته- إلى الجانب الأخلاقي وكأنه ينتقد تحركات الفرد نفسه. فهو يلقي لوم الهزيمة على الفرد (عملية جلد الذات) الذي خلت منه المسؤولية الاجتماعية وأصبح غير مبالياً بحوله من إنسان أو ممتلكات عامة. فهو إذا عمل في "وزارة الصحة"، لا يكترث فعلياً لصحة الآخرين. وإذا "قتل -على إثر حادثة-"، لا يسلم نفسه للقانون ولكن يولي الأدبار ويلوذ بالفرار.

في الأخير، يبقى النقد الفلسفي الأدبي لروايتي "عودة الطائر إلى البحر" و" ثرثرة فوق النيل" أطروحة لتغيير الواقع الفردي والمجتمعي وكذلك الفكري والعقائدي. فمن وجهة نظري، أؤمن بأن الدول العربية قاطبة ما زالت تائهة و"الهزيمة" هي إرث من الماضي ما زلنا نتبناه. لذلك يكمن عملنا كفرد ومجتمع في المطالبة بتغيير ومراجعة موروثنا الثقافي من دين وفكر ونظام سياسي.
CEE5A813-F2C9-447F-ACA7-CCC49FCEECF9
محمد العدلاني

يمني مقيم في بيروت. كاتب -بين الحين والآخر- في مجال الشؤون الاجتماعية وطالب في الإدارة العامة وعلم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت