تسجيلات محمد علي كلاي تروي سيرته (2/4)

تسجيلات محمد علي كلاي تروي سيرته (2/4)

11 مارس 2020
+ الخط -
في حديثه عن تطور شخصية محمد علي كلاي عبر السنين يقول أول مدرب له أنجيلو دندي إنه أدرك منذ البداية أن محمد علي كان يرغب في رسم شخصية مختلفة له، فعلى العكس من الملاكمين الذين يختارون الصمت في المؤتمرات الصحفية لأنهم لا يجدون ما يقولونه أو لأنهم لا يعرفون كيف يتكلمون، قام محمد علي بتحويل كل مؤتمراته الصحفية إلى فرصة لاستعراض قدراته على الحديث والإضحاك والمباهاة بنفسه خالطاً الجد بالهزل، وهو ما جعله يصبح معبود وسائل الإعلام التي أصبحت تتابعه بتركيز، لتبدأ من هنا أسطورة محمد علي التي كان يدركها جيداً، حين قال في حوار متلفز له عرض الفيلم جزءاً منه قال فيه إنه فخور بنفسه لأنه قام بتغيير صورة الملاكم لدى الملايين، فلم يعد الملاكم لديهم هو ذلك الشخص الذي يتهته في الكلام، أو يتحدث عن عدد الأميال التي قام بجريها بالأمس، بل أصبح يوجّه له أسئلة في البرامج والندوات تشبه تماماً الأسئلة التي توجه للرئيس نيكسون أو ملكة انجلترا.

يتذكر مدربه ضاحكاً كيف قوبل محمد علي بعداء شديد من الجمهور الإنجليزي حين ذهب إلى انجلترا لملاكمة البطل الإنجليزي العالمي هنري كوبر، خاصة أن محمد علي استفز الجميع بإعلانه لوسائل الإعلام أنه سيهزم معبود الإنجليز هنري كوبر ـ الذي وصفه محمد علي بالمتشرد ـ في الجولة الخامسة، وحين دخل محمد علي إلى المباراة مرتدياً تاجاً فوق رأسه، وهو ما قابله الجمهور بسخرية واستخفاف، لتحدث المفاجأة، ويتمكن محمد علي من تقديم أداء مدهش فاجأ الجميع، ومع ذلك كاد كوبر يحسم المباراة لصالحه في الجولة الرابعة بضربة خطافية من يده اليسرى، لكن محمد علي تماسك سريعاً وعاد للسيطرة على مجريات الأمور، وبالفعل تمكن من هزيمة كوبر في الجولة الخامسة بعد أن أوقف الحكم المباراة لتضرر هنري الشديد من ضربات محمد علي المتتالية.



بعد المباراة تحدث محمد علي مع وسائل الإعلام بطريقته الفريدة ـ والتي ظل كثيرون يعتبرونها نموذجا لفكرة "سوق الهبل على الشيطنة" ـ معترفاً أنه قام بالتقليل من أهمية كوبر الذي لم يكن متشردا كما وصفه، بدليل أنه جعل أنفه ينزف للمرة الأولى منذ أن بدأ الملاكمة، وأوقعه للمرة الأولى على الحلبة وهو ما لم يحدث له من قبل، لكن ذلك يجعله يستحق لقب ثاني أعظم ملاكم بعد محمد علي، "لأنني أنا الأعظم ولم يوجد بعد من هو أعظم مني"، وحين سأله المذيع عما إذا كان فوزه في الجولة الخامسة كما توقع يعتبر ضرباً من الحظ، رد محمد علي بجدية شديدة: "لا أفهم ما الذي تعنيه بالحظ، لقد أخبرتكم أنني سأهزمه في الجولة الخامسة، وهو ما حدث"، وحين سأله المذيع لماذا جاء إلى المباراة مرتديا تاجا على رأسه فرد ببساطة "لأنني الملك، أفهم أن لديكم في انجلترا ملكة، لكنني الملك"، لتصبح تلك الردود التلقائية حديث العالم، وتنفجر موجة من الإعجاب الجارف بمحمد علي في انجلترا، لدرجة أنه لم يستطع المشي في الشارع من هجوم المعجبين لاحتضانه وتقبيله، بعد أن كان عرضة للسخرية والهجوم قبل ذلك.

في مكالمة مسجلة أخرى له مع ابنته مريم حين كانت لا تزال طفلة، سألها محمد علي: هل يضايقك الأطفال في المدرسة عندما يعرفون أنك ابنتي؟، فأجابته: نعم، سألها: من يفعل ذلك الأولاد أم البنات؟، أجابته: غالبا الأولاد، فتأثر جداً بما سمعه، وظهر على صوته الحزن والارتباك، لينقلنا الفيلم إلى حديث مع مريم وهي تروي إدراكها المبكر كطفلة لحب الناس الجارف لوالدها، وكيف كان يحب معجبيه ويحرص على التوقف لتحيتهم خلال وجود أطفاله معه، وكيف أنها لم تدرك أن والدها مهم جداً، إلا عندما رأت نجومها المفضلين يزورونه في بيته ويضحكون معه ويعاملونه بإعجاب واحترام، متذكرة أنه خلال طفولتها كان يلعب دور الشرطي الطيب بين الوالدين، كان أحيانا يغضب من شقاوتها فيقول لأمها أن مريم تحتاج إلى العقاب، وبعد أن تتعرض للعقاب يأتي إلى غرفتها لكي يطمئن عليها ويعرض عليها الآيس كريم، وكان يحب دائما الضحك وتقبيلها واحتضانها ويتأثر لأقل مشكلة تتعرض لها، بصورة لا يمكن أن يصدقها الذين يرون فيه محمد علي العنيف.



عند هذه النقطة اختارت مخرجة الفيلم مقطعاً من فيلم قديم تم تصويره في منزل محمد علي، يظهر كيف كان يتعامل بشكل جاف مع زوجته الأولى قائلا لها بشكل أربكها أمام الكاميرات: "هل يمكن أن تطبخي لي بعض العشاء، كل ما عليكي فعله الجلوس في بيت مريح وعدم فعل أي شيئ متعب، فهل يمكن على الأقل أن تطبخي لي العشاء في وقته يا امرأة؟"، ليقدم ذلك المشهد القصير تفسيراً لانفصال محمد علي عن زوجته بليندا، لكن الفيلم حرص على تأكيد أن محمد علي ظل ممتنا جدا لوالدة زوجته السابقة بليندا التي قامت بتربية بناته بشكل جعله يرتاح نفسياً خلال سفرياته الطويلة حول العالم لنيل ألقابه والدفاع عنها، حريصاً في سفرياته على إجراء مكالمات طويلة مع بناته، وقد اختار الفيلم منها مكالمة لطيفة يناقش فيها محمد علي ابنته مريم عن الهدف من خلق الله لها، محاولا أن يشرح لها أن الله خلق الأبقار لكي تعطينا اللبن والشمس لكي تعطينا الدفء لذلك لا بد أن يكون لك هدف من وجودك، وشعر محمد علي بسعادة غامرة حين قالت له ابنته مريم إن هدف وجودها في الحياة هو جعل البشر أفضل وإصلاح أحوالهم.



يعود فيلم (أنا علي) للتأكيد على أن تجاهل محمد علي كلاي والتقليل من قدراته لم يقتصر على الإنجليز الذين كان يزور بلادهم للمرة الأولى، بل كان أمرا يتعرض له داخل بلاده نفسها، كما نرى من خلال لقاءات تم تصويرها في عام 1964، قبل أن تبدأ في مدينة ميامي الأمريكية وقائع صراع محمد علي على لقب بطل العالم مع الملاكم الشهير تشارلز سوني ليستون الذي كان له علاقة بالمافيا وكان رجل عصابات قبل احترافه الملاكمة، وكان هناك قناعة شعبية عامة لدى كل الذين التقت بهم الكاميرات التي كانت تغطي الحدث بأن ليستون سيسحق علي في الجولة الأولى.

كان ليستون يعتقد أن محمد علي مجنون تماما، كما يقول كين جونز الصحفي الذي قام بتغطية المباراة، ولأن علي كان يعرف ذلك فقد قرر أن يستغل هذه السمعة في استفزاز ليستون في المؤتمر الصحفي الذي سبق المباراة، بشكل أثار ارتباك ليستون الذي لم يعرف كيف يرد على محمد علي الذي بدأ يقوم بأداء حركات مستفزة، ويقول للصحفيين أنه يتوقع أن أحداً سيموت في الملاكمة الليلة من فرط الرعب، وحين بدأت المباراة أدهش محمد علي الجميع بسحقه لليستون، لينسحب في الجولة السابعة ويعلن فوز محمد علي بلقب بطل العالم، لينفجر محمد علي في الصحفيين بعد المباراة ويهاجمهم، لأنهم لم يعاملوه أبدا بنفس الطريقة التي عاملوا بها ليستون، وأنه يعلن لهم بأن أحدا لن يوقفه، ولتظهر في تغطيات تلك المباراة العبارة الشهيرة "يطير كالفراشة ويلدغ كالنحلة"، والتي يظهر الفيلم لقطات لأطفال سود في الأحياء الفقيرة وهم يرددونها أثناء تقليدهم لأسلوب محمد علي في الملاكمة.



يرينا الفيلم بعدها كيف بدأ محمد علي بعد يومين من حصوله على لقب بطل العالم في جذب اهتمام وسائل الإعلام بإعلانه دخول الإسلام ودفاعه عن تغيير اسمه من كلاسيوس كلاي الذي اعتبره اسم العبودية الذي لا يليق به كرجل حر، ولذلك فهو يعتز باسم محمد علي ويرفض أن ينادى باسمه القديم، بل ويظهر في برنامج شهير ليسخر من حمل الأمريكان السود المتحدرين من أصول أفريقية لأسماء أسيادهم البيض، في حين أن جميع الأمريكان المتحدرين من أصول أخرى يحملون أسماء مستمدة من تراثهم وثقافتهم، لكنه لا يقصر الأمر على فكرة تغيير الإسم والدين فقط، بل قرر أن يحول شهرته إلى منبر لإثارة قضية العنصرية ضد الأمريكيين السود، فنراه في أكثر من برنامج يهاجم قيام وسائل الإعلام بعمل غسيل مخ للمواطن الأمريكي لكي تشعره بتفوق المواطن الأبيض على المواطن الأسود، بدءاً من الحديث عن جمال اللون الأبيض في كل شيئ ومرورا بالبيت الأبيض الذي يحكمه ووصولا إلى استعراض سباق بين سيارتين بيضاء وسوداء بعد أن قام الإثنان بملء البنزين فتكسب السيارة البيضاء السباق، وبرغم أن الكلام الذي كان يقوله يبدو الآن بسيطاً، ويحمل تسطيحا لقضية العنصرية، إلا أن النظر إليه في السياق المتفجر لذلك العصر يعطيه أهمية أكبر من مضمونه.

يلتقي الفيلم مع جيم براون لاعب كرة القدم الأمريكية الأسود الشهير الذي عاصر أزمة محمد علي خلال حرب فيتنام حين رفض أن يشترك في الحرب، معلنا بكل شجاعة أنه لن يشارك في قتل مواطن ملون لمصلحة الرجل الأبيض، وأنه لو قام الفيتناميون بمهاجمة أمريكا سيكون أول من يقف للدفاع عن أمريكا لكنه لن يبادر بالإعتداء عليهم، ويحكي جيم براون كيف قام بالاتصال برئيس اتحاد الأمريكيين السود لترتيب وفد من الرياضيين الأمريكيين السود للذهاب إلى محمد علي والتضامن معه والمطالبة بإتاحة فرصة أكبر له لكي يروي وجهة نظره للشعب الأمريكي خاصة بعد أن اشتدت الحملات المهاجمة له، ليذهب تسعة رياضيين كبار إلى محمد علي بصحبة وسائل الإعلام التي غطت الحدث بكثافة، ويستمعوا إلى وجهة نظره ويتناقشوا معه، ويوصلوا صوته إلى الناس بشكل جعل الكثيرين يتفهمون موقفه، وإن كان لم يمنع عقابه بشكل رسمي حين تم حرمانه من كل ألقابه الرياضية ليبدأ نزاعا قضائياً طويلاً لمحاولة وقف هذا القرار.

لكن محمد علي لم يتوقف عن الملاكمة بمعناها الواسع ولو للحظة، فقد قام بتحويل أمريكا بأسرها إلى حلبة ملاكمة قام فيها بمواجهة الأفكار العنصرية، مستغلاً شعبيته الواسعة في دعم حركة الحقوق المدنية بكافة أطيافها، يعرض الفيلم مقطعاً مهماً يتحدث فيه القيادي الأمريكي الأسود الشهير مالكولم إكس والذي برغم انشقاقه عن أستاذه إيليجا محمد الذي كان سبب دخول محمد علي في الإسلام، إلا أنه لم يقم بتوسيع هذا الخلاف ليشمل محمد علي، فقد أدرك أهميته بالنسبة للمواطن الأمريكي الأسود، قائلاً إن المؤسسة التي تحكم أمريكا تخشى من تأثير محمد علي لأنه يقوم بتغيير صورة الأمريكي الأسود الذي يحبون له أن يظل دائما مستضعفاً مقهوراً، ولا يعجبهم أن يقوم محمد علي بإحياء نبرة الفخر لدى الأمريكي الأسود بنفسه.

حرص محمد علي في تلك الفترة على أن يذهب إلى الجامعات للالتقاء بالأجيال الشابة والوصول إليها لإدراكه أنها المستقبل الحقيقي لأمريكا، يعرض الفيلم مقطعاً من زيارة له إلى جامعة هارفارد العريقة حيث احتشد آلاف الطلبة لرؤيته، وأخذ يحدثهم ساخرا بأنه يشعر بالفخر لأن يحتشد لسماعه كل هؤلاء الطلبة المتفوقين الذين كانوا يحصلون على تقديرات "A" بينما هو لم يكن يحصل إلا على "-D"، وأنه لذلك شعر بانه لا بد من أن يكون على مستواهم، فقرر أن يرتجل ويقول "أي كلام" لترتج القاعة بالضحك والتصفيق.

كان محمد علي في جولاته المختلفة حريصاً على أن يكون الترجمة العملية لحديث مارتن لوثر كنج عن التغيير السلمي ومقاومة كراهية البيض بالمحبة، فكان يسعى في كل لقاءاته وخطبه إلى كسر المشاعر العنصرية لدى البيض، بإظهار محبته للجميع بغض النظر عن ألوانهم، وكان ما يقوم به مؤثراً للغاية وأبلغ بكثير مما كان يحاول الكثير من السياسيين والنشطاء القيام به، وهو ما لم ينسه له الذين عاصروا تلك الفترة مثل جيم براون الذي قال إن على الجميع أن ينظروا دائماً بإكبار لمخاطرة محمد علي بمستقبله المهني وحياته وبأكثر شيئ يحبه في العالم وهو الملاكمة، من أجل مساندة الثورة الإجتماعية التي كان يقوم بها السود وقتها، وكان محمد علي واحداً من أهم أسلحتهم الناجحة. وحين سأله مذيع في لقاء تلفزيوني: هل أنت نادم لأنك دفعت ثمنا غاليا لموقفك؟ قال له محمد علي: "احتفاظك بلقب بطل العالم لا يعني شيئا إذا لم تشعر أنك حر، الشباب الذين نرسلهم إلى فيتنام يفقدون حريتهم، لكي يدافعوا عن قضية لم يختاروها، أنا لم أفعل ذلك، أنا لا زلت حياً، فما قيمة أي ثمن أدفعه من أجل تحرير قومي".

....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله..
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.