عندما ذبلت جوجو عينيها للرفيق محمود

عندما ذبلت جوجو عينيها للرفيق محمود

29 فبراير 2020
+ الخط -
من عادة الإنسان السوري الذي يحتفظ بحكاية ما، أنه إذا سمع حكايةً مشابهة لحكايته يقول لمحدثه: بما أنها "سيرة وانفتحت" اسمع هذه.. ويسرد عليه حكايته. وللتذكير فإنّ الإعلامي اللبناني زافين قيومجيان كان يقدم برنامجاً يحمل هذا العنوان على تلفزيون "المستقبل".

قال كمال: القصة اللي حكاها أبو زاهر عن زميله في سجن صيدنايا الصحافي إبراهيم وكيف إنهم اعتقلوه بسبب كلمات كتبها على ورقة الإحالة الطبية، بتدل على إنه المسؤولين في نظام الأسد بيتصرفوا في معظم أمور الدولة بشكل سخيف، وأحياناً بشكل مضحك. حكاية إبراهيم، وبما إنها سيرة وانفتحت، ذكرتني بحكاية غريبة سمعتها من صديق كان مقرب من المسؤولين البعثيين في محافظة إدلب. ولحتى حضراتكم تفهموا الحكاية بسهولة أنا راح أسمي الأشخاص أبطال الحكاية بأسماء مستعارة. لأن نحن ما منهدف بحكاياتنا إني ندين أشخاص معينين ونحاكمهم، إنما الهدف من الحكايات هو التسلية والعبرة..

قال أبو محمد: هادا شي كويس يا أستاذ كمال. تفضل إحكي. عم نسمعك.

قال كمال: راح نفترض إنه بطل القصة اسمه "الرفيق محمود". وجرت أحداث القصة لما كان "محمود" عمره ستين سنة. محمود، بعد نضال طويل، ومرير، ومضني، ضد الاستعمار والصهيونية والرجعية، وحُبّ وتَعَلُّق بالقائد التاريخي حافييظ الأسد، وعدد من المرات تعطلت فيها حبالُه الصوتية من شدة إلقاء الخطابات النارية في المناسبات وخارج المناسبات، والمشاركة بعدد كبير من الدبكات في المناسبات القومية، بالإضافة لأكتر من خمس مرات انفتق فيها بنطرونُه من جَرّاء حركة النَخّ المفاجئة في الدبكة... منشان كل هالشي عينوه بمنصب عضو فرع بحزب البعث العربي الاشتراكي. 

قال أبو جهاد: يا ساتر. تعيين الواحد بوظيفة عضو فرع بده كل هالنفاق والدجل والعياط والنط والقمز وفتق البنطرونات؟ 

قال كمال: طبعاً. هوّ صحيح الواحد بينذلّ أثناء هالنضال الطويل، لكن بعدما يتعين بيستفيد، وبيصير بإمكانه يعيش كم يوم حلوين. المهم إنه محمود، خلال تلات أشهر في عضوية الفرع، شعر بأنه إنسان مهم، ومحبوب، وصار مكتبه يزدحم بالزوار والمهنئين، وطول النهار تجيه طلبات ورجاءات ووساطات، (ويا رفيق بدنا منك هالشغلة، ويا رفيق لا تنسى لنا هالموضوع) إلى آخره. وفي إحدى المرات دخلت لعنده رفيقة بعثية مناضلة، (نفترض اسمها جوجو) وفتحت معه حوار نضالي بحت، وصارت تسأله عن نضالات حزب البعث العربي الاشتراكي في العهد السري، وبعد ثورة آذار المجيدة، وكيف تم تتويج هالتاريخ النضالي الحافل بالحركة التصحيحية المباركة اللي فجرها القائد حافيييظ الأسد، وهوّي حكى لها عن نضالاته الشخصية، وكيف إنه من كتر ما بيحب القائد أواقيت بيفيق بالليل وبيناضل، يعني متل المصاب بالتهاب البروستات لما بيفيق بالليل حتى يتبول، وإنه زوجته صحيت مرة بالليل سمعته وهوي عم يعيش القائد، فاحتضنته بحنان وقالت له: نام حبيبي هلق، والصبح انشالله بتعيّش القائد على تَنْهَة.. وخلال هالحوار (الشيق) صارت "جوجو" تقرّب الكرسي تبعها باتجاهه، وتلز عليه، لحتى دقرت ركبتها بركبته، ولما نظر فيها ذبلت له عيونها تذبيلة قادرة على رمي الطائر من السماء على الأرض جثة هامدة.. وهيك، لحتى شعر محمود إنه هوي إنسان وسيم، وجذاب، ومحبوب من قبل النسوان، والدليل إنه جوجو بتحبه، وبتغمى عليه.. ويا سيدي، ما مر غير شهر واحد حتى كان محمود مطلق زوجته أم الولاد، ومعلن زواجه ع الرفيقة المناضلة جوجو! 

قال أبو محمد: هادا رجل قليل ناموس أصلي.

قال كمال: طبعاً. والرفيقة جوجو يا عمي أبو محمد زغيرة بالسن، وجميلة، وذكية جداً، لذلك تمكنت من السيطرة على مركز القيادة في دماغ الرفيق محمود، وصارت كلمتها عنده ما بتوقع ع الأرض. وفي يوم من الأيام طلبت منه طلب غريب. 

قال أبو ماهر: الهيئة بلشت المشاكل؟

قال كمال: من دون مشاكل ما بتكتمل الحكايات يا أبو ماهر. يعني إذا حدا بيحكي لك سلسلة من الأحداث والوقائع اللي كلها جيدة وصحيحة ومنطقية وماشية في مجراها الطبيعي بتقول لحالك: لأيش عم يحكي لي هالحكي اللي ما إله طعمة؟ 

خليني هلق أحكي لكم أيش صار مع محمود وجوجو: يا سيدي الدائرة الحكومية "الفلانية" كانت بصدد تعيين مدير، وهالدائرة تابعة للمكتب الفرعي اللي بيديره الرفيق محمود. يعني الشخص اللي بيرشحه محمود للإدارة راح يصير مدير حتماً. وفجأة جوجو بتطلب من محمود إنه يعين أخوها "رمضون" بهالوظيفة. محمود ما بيسترجي يحكي مع جوجو بجلافة، أو بصرامة، أو بقساوة، لذلك أخفى امتعاضُه من هالطلب، وقال لها بكل لطافة: 

- والله يا جوجو هاي فكرة ممتازة. يا ريت لو كانت شروط التعيين بتنطبق على أخوكي "رمضون"، كنا عيناه فوراً. 

لكن جوجو تصرفت وكأنها ما سمعت الجواب، وعَلى السريع أفهمته إنه إذا ما تعين "رمضون" مدير لهالدائرة ممكن هيي تتطلق منه.

ارتعب محمود. معقولة جوجو تتطلق منه؟ يا ساتر. ليش هوي عاد بيقدر يعيش يوم واحد بعيد عنها؟ من دون يمين بيطق عقله. 

قال لها: طيب حبيبتي جوجو، كلامك عندي بيشبه سندات التمليك والطابو، وأنا مستحيل أرد لك طلب. لكن القصة يا حبيبتي معقدة كتير. لأن شقيقك المحترم رمضون، الله يصلحه، أعلى شهادة حصل عليها بحياته هيي الثانوية العامة الفرع الأدبي، والدائرة اللي بدنا نعين لها مدير مشترطة إنه يكون المدير مهندس أو في الحد الأدنى حامل شهادة الليسانس في الاقتصاد والتجارة، أو حتى في الحقوق. 

كانت جوجو عم تحكي مع محمود وهيي عم تظبّط المكياج الخاص فيها، وما اكترثت بالتفاصيل اللي كان محمود عم يستعرضها. أجت لعنده، حطت إيدها على رقبته بحركة غنج مدربة، وبالإيد التانية مسكت ربطة العنق تبعه وشدتها لتحت وقالت له: 

- حبيبي محمود، أنا ما بيهمني كل هالحكي. اللي بعرفه إنك، إنته حبيبي، بتحسن تعين رمضون مدير للدائرة، وعلى فكرة، رمضون وعدها للماما ولإختي فوفو إنه يطلعهن مشوار بالسيارة اللي بده يستلمها لما يصير مدير، وأنا لما سألوني عن الموضوع قلت لهن: ليش لأ؟ أحلى مشوار مع أحلى مدير دائرة. ويمكن أنا إطلع معهن كمان.

وهيك وقع الرفيق محمود في حيص بيص. 

(للقصة بقية)

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...