أول العقوق!

أول العقوق!

25 فبراير 2020
+ الخط -
كنت في ضيافة أسرة تستعد لاستقبال مولود جديد، ولحسن حظي أنها فتاة، ولا أخفي عنكم عشقي وحُبّي للفتيات الصغيرات، فدعاني ذلك للانتباه إلى هذا الحديث الذي كان يناقش اختيار اسم الفتاة، واضعين قاعدتين أساسيتين لاختيار الاسم الأول: أولاهما أن يكون أعجميًّا غريبًا لم يأتِ به الأولون، وثانيتهما أن يكون جميلًا.. ولعمري كيف يجتمعان!

لقد سمعت عجب العجاب من الأسماء تحتاج إلى قاموس يحوي كل اللغات حتى تجد معناه وأصله وفصله، فأحببت أن أدلي بدلوي في هذا النقاش، وألقيت على مسامعهم بعض الأسماء العربية والمصرية الجميلة التي تربطني بأصحابها وبمعانيها روابط وأواصر؛ منها الدينية والثقافية والتراحمية، فكان منهم الإنكار والاستنكار وكأنني نطقت بفحش القول، بدعوى أنها أسماء تقليدية وقديمة وعفا عليها الزمان، وأصبح واجباً عليّ أن أُلقي على مسامعهم اسمًا جديدًا غريبًا عجيبًا.. على سبيل المثال "اسم عشبة نادرة تائهة في صحراء العرب لا تُطعم جائعًا ولا تروي ظمآن، ولا تذكر من عبيرها شيئًا"، ولا يهم إن كان جميلاً أو قبيحاً في قيمته ومعناه، فالمهم أن يكون غريبًا ولم يطرق مسامعهم من قبل حتى أخرج من هذه الورطة.


لقد دعاني ذلك النقاش إلى متابعة الأسماء الجديدة والنمط السائد لتسمية الأبناء هذه الأيام، فوجدت أن هذا النمط الغريب هو السائد منذ فترة.. "وأنا مش دريان!"، فأخذ الموضوع في تفكيري حيزًا لا بأس به دعاني إلى التفكير في هذا القدر الكبير من العقوق الذي نمارسه في حق أبنائنا، وهو "أول العقوق" كما يصفه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- تجاه الأجيال المقبلة. وتساءلت: كيف حدث هذا التغير الكبير في فلسفة تسمية الأبناء عن ذي قبل؟

فاستدعيت الجيل السابق والأسماء التي كانوا يستخدمونها. وأول ما خطر ببالي أسماء إخوتي، والسبب الرئيس في إطلاق أبي وأمي عليهم تلك الأسماء؛ حيث أذكر أنهم دائمًا كانوا يذكرون لنا لماذا سمّونا بتلك الأسماء، والتي كانت لها دلالات عميقة ترتبط بالوصل والحب والوفاء والبر والحال والرجاء والبشارة؛ فكانت أسماؤنا إما تمنّيًا وشكرًا لله على الخير، وإما برًّا للوالدين، وإما حبًّا ووفاءً لأخ أو صديق. فكانت لهما أول مولودة سمّوها باسم يحمل أملًا ورجاءً من الله أن يجعلها ويجعلهما من أهل اليمين. أما الثانية، فكانت على اسم عمتي الجميلة، الأخت الوحيدة لأبي. وأما أنا، فكنت ثالثهم، فسمّاني أبي باسم صديقه وخليله؛ فقد تعاهدا منذ الصغر على أن يُسمي كل منهما ولده باسم الآخر، فسماني أبي باسمه وسمى هو باسم أبي. أما مولدهما الرابع فقد سُمي باسم عمي الحبيب، وأما الخامس من إخوتي فسُمي على اسم خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ رجاءً منهم من الله بيُسر المعاش. والسادسة وُلدت بعد وفاة جدتي الجميلة الحنونة الطيبة بأشهر معدودات، فسُميت باسمها برًّا وحبًّا من أبي لأمه؛ فقد كان يُضرب به المثل في برِّه بها ووفائه لها. وأما السابع، فكان على اسم جدي الطيب، برًّا وحبًّا وتخليدًا لذكراه. وأما الثامنة (آخر العنقود)، فكانت على اسم خالتي أقرب الناس وأحبهم إلى قلب أمي.

وهكذا.. كان هناك معنى ومغزى لكل اسم وارتباط معنوي ووجداني بين الأسماء، وأكاد أجزم أن أغلبية هذا الجيل من الآباء والأجداد كانت تحكمهم الفلسفة نفسها في تسمية أبنائهم، أما الآن فليست الأمور على سابق عهدها؛ فقد اختلطت مجتمعاتنا بالأسماء الغريبة التي لا تمت إلى لغتنا وثقافتنا بأية صلة، ولا تحمل أي معنى للسامع ولا تفسير للعاقل والمتأمل، مستعصية على الفهم والتأويل وأعجمية على اللسان، مع تحفّظي الشديد على الأسماء التي قد تسبّب أن يتعرّض الطفل إلى التنمُّر، فتبقيه في عُزلة وتؤثّر سلبيًّا على صحته النفسية، سواء أكان الاسم عربيًّا أم أجنبيًّا.

هذه دعوة مني للعودة إلى استشعار جمال المنطوق والمعنى والموسيقى التي يحتويها الاسم العربي الأصيل الذي يُضفي على صاحبه رونقًا وإحساسًا وأصالة، فننطلق من ضيق الأسماء الغريبة إلى رحابة الاسم العربي بمعانيه وأصالته وجماله، ولنغص عميقًا في تاريخنا ولغتنا وثقافتنا لنعيد هذه الأسماء إلى الصدارة من جديد، فكثير من الأسماء العربية أصبح من النادر أن تجد من يُسمّي بها في هذه الأيام.

فتخيَّروا الاسم الحسن لأبنائكم، فهو واجب عليكم، كما أنه حقّ مكفول لهم.
3D69939F-DB94-4018-93F8-77A3B0C38752
مصدق شعله

مدون مصري، حاصل علي دبلومة في العلاقات الدولية، ومهتم بالسياسة وعلومها.