ويسألونك عن الضاد!

ويسألونك عن الضاد!

24 فبراير 2020
+ الخط -
قبل قرون خلت، طُلب إلى كاتب هذه السطور أن يقدّم محاضرة، لم تكن محاضرةً عامة، إنما محاضرة إلى طلبة بعض المدارس الثانوية، وموضوعها عن اللغة العربية بين التاريخ والحضارة. لم يكن الحضور مهتمًا باللغة من الأساس، وتعالت الأصوات حين سألتُ -أو بالأحرى سألتهن- عن سر الزهد في الضاد وغسل اليد منها؟

قالت إحداهن "القواعد"، لا تريد بذلك القواعدَ من النساء ولكنها قصدت قواعد اللغة العربية، وقالت ثانية "النصوص"، ورفعت ثالثة عقيرتها "البلاغة"، ورابعة اتهمت "الأدب"، وخامسة "أنا لا أستخدمها حتَّى في البيت؛ فإني أتحدث إلى أهلي بالإنكليزية"! وتأسيسًا على جوابهن كان لزامًا عليَّ أن أسألهن: لماذا حضرتُنّ الآن؟ فلربما يردن أن يصححن عَلاقتهن باللغة العربية، وربما لديهن هاجس عن فهم الضاد أو التماس طريق يقرِّبهن إلى اللغة.

ولأنني لا يروقني منطق الغربان إذ "أوله كاك وآخره كاك"؛ فقد حدثتهن باللهجة المحلية التماسًا لنقطة تقاطع، أو قل لإيجاد الأرض المشتركة، لئلا يكون حديثنا "حديث الأقاصي"، وفيه لا يجتمع الشرق والغرب مهما حاولنا. حدثتهم عن سيبويه، هذا الفتى المبارك الذي تحدى نفسه بعدما لحن في مجلس حماد بن سلمة، وكيف أن لحنه اللغوي مرتين غيَّر مسار حياته، وأنه ركز في النحو وتتلمذ على يدي أستاذ البصرة الكبير، الخليل بن أحمد الفراهيدي، وبلغ من تمكّنه في النحو أن تسيّد حلقة البصرة بعد وفاة الخليل.

لم تكن العربية لغة سيبويه الأولى، فهو فتى فارسي، أقبل إلى البصرة ليأخذ الحديث عن ابن سلمة، لكن الظروف أجبرته على أن يقول كلمته الخالدة "سأطلب علمًا لا يُلحِّنُني فيه أحد"، وقد كان له ما عقد عليه عزمه، وصار كتابه "الكتاب" قرآن النحويين من بعده. الفارسية لغة سيبويه الأولى، ومع ذلك تألق في العربية وسبق الجميع، ما يثبت أن التحصيل اللغوي لا ينضاف إلى الغول والعنقاء والخل الوفي، بل هو أمر متاح لمن طلبه بصدقٍ واجتهاد.


لست الآن بصدد الحديث عن تفاصيل ما جرى، بقدر ما أنا معني بنقل الصورة من زاوية ما، إذ حضرت اللقاء أستاذةٌ جامعية، وبعد انتهاء اللقاء قالت إنك لم تتكلم معهن بالفصحى، ويبدو لي إنك لا تعرف عنها قليلًا أو كثيرًا! ولا يعدم كاتب هذه السطور جوابًا إذ أول ما طلبه من تلك الأكاديمية أن تُناظره في اللغة، وضربت أخماسًا في أسداس وأنا أسمع الأكاديمية تصر على الحديث بالفصحى استجلابًا لأنظار الحاضرات، وتحبيبًا لهن في اللغة.

خرجت من اللقاء؛ فاستقبلني أبو هلال العسكري صاحب "الصناعتين"، ولما أخبرته ما دار في القاعة أخرج صوتًا من أنفه، ثم قال مستنكرًا: ألم تسمع هاتيك الجامعية ما كتبته عن مراتب الكلام؟! واستطرد قبل أن أنبس ببنت شفة: يا بني! إن "لكل مقامٍ مقال، وربما غلب سوء الرأي وقلة العقل على بعض علماء العربية؛ فيخاطبون السوقي والمملوك والأعجمي بألفاظ أهل نجد ومعاني أهل السَّراة"؛ فقلت له: إي والله -يا شيخنا- صدقت!

وأكمل العسكري جملته قائلًا: "لأن العامي إذا كلمته بكلام العِلية سخر منك وزرى عليك"، وارتأى أبو هلال أن يضرب مثالًا للمسألة فغمزني في جنبي وهو يواصل حديثه: "كما رُوي عن بعضهم أنه قال لبعض العامة: بمَ كنتم تنتقلون البارحة؟ (يعني على النبيذ)؛ فأجابه العامي: بالحمَّالين!"، وتوسَّع العسكري في شرحه قائلًا: "لو أن صاحبنا تبسّط في سؤاله وقال: أي شيءٍ كان نقلكم؛ لسلم من سخرية العامي وغيره".

لتعلم الأستاذة الأكاديمية وجوب مخاطبة كل فريق بما يعرف، وتجنّب ما يجهل أو يكره، والله سبحانه يكره الانبعاق في الكلام والتبقُّر كما وردنا عن سيد الأنام. يأخذنا لهذا الملمح المؤثر حديث النبي الكريم مع الأشعري؛ فهذا الأشعري من قبيلة تنطق لام التعريف ميمًا، وعلى سليقته سأل المصطفى: هل من امبرٍ امصيامٌ في امسفر؟ فأجابه سيد الخلق: "ليس من امبرٍ امصيامٌ في امسفر"، لم يطلب منه أن يرتقي في لغته، ولم يأمره أن يتكلم بلسان قريش، وإنما حدّثَ الأشعريَّ بما يتماشى مع ثقافته ومستواه اللغوي.

حكمة أؤمن بها وأدندن عليها "طعام الكبير سُمُ الصغير"؛ فإذا بدأت رحلة الدرس النحوي بألفية الإمام ابن مالك، لن تجد التفاعل والإقبال على الدرس مثلما لو بدأت بـ "الآجرومية" أو "قطر الندى وبل الصدى"، ولو أنك قررت أن تتلمذ على يد ابن هشام الأنصاري المصري؛ فإنك ستجد من المشقة الشيء الكثير إن بدأت معه بكتاب "مغني اللبيب عن كُتُب الأعاريب"، ولن تجد الصعوبة إذا دخلت إليه من باب "قطر الندى".

ليس التشنج في الطرح إلا زيادة في هم العربية، ويجدر بالأكاديمي أن يتوسل بألمعيته إلى طريقٍ يقرِّب العربية للناس، كثيرون هم من فسّروا التنزيل العزيز، لكن أذكر لي اسمًا واحدًا تشبثت العامة بطرحه وتفسيره، على الفور سيقفز إلى ذهنك إمام الدعاة، شيخنا الشعراوي، رحمه الله وأجزل مثوبته. نزل الشعراوي إلى مستوى الناس، وحبَّب إليهم العربية السهلة، لا تكلُّف فيها ولا تشدُّق، وكان من حسنات ذلك أن أقبلت الجموع على كتب الأدب تستزيد منها وتنهل من معينها.

يا أيتها الجامعية! هل لكِ أن تُجبري طفلك الرضيع على أن يحمل الأثقال؟! هل لكِ أن تطلبي منه أن يقارع الكبار وأن يجاريهم؟! أم أنكِ تعلمينه الزحف أولًا ثم السير ولو لبضع خطوات وتفرحين به وتشجعينه، وشيئًا فشيئًا يشتد عوده ويقوى لسانه ويُحسن أن يقرأ للمبرِّد وابن السكيت وابن المقفع والجاحظ والتوحيدي، ويتعلم أن يفهم عن أبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء، ويلتمس السبيل إلى هؤلاء على نارٍ هادئة. من قرأ سيرة يحيى حقي، صاحب القنديل، يدرك أن الرجل من المنافحين عن الضاد، لم يأتِ ذلك من فراغ، ولم يكن بين عشيةٍ وضحاها، وإنما بعد أن تشرَّب حبها من مدارسة الأدب الجاهلي، وبعد أن تتلمذ على الشيخ محمد أحمد شاكر. قبلها، كانت الفجوة بين حقي والفصحى واسعة، ومع الوقت والمُدارسة اندمل الجرح واختفت ندوب العامية من كتابته.

هل نريد ممن يتكلم العربية أن ينفصل عن الواقع؟ أنريد منه مثلًا أن يتكلف في حديثه؟ هذا أبو علقمة، وقد ضرب به (أهل زمانه) المثل في التكلّف والتشدُّق في غير موضعه، لا أقول أهل زماننا، إنما أعاب عليه معاصروه أن يتكلم إليهم؛ فإذا هم في وادٍ وهو في غيره، وهذا الانفصام النكد لا يغيِّر من واقع اللغة الأليم في قليل أو كثير. يقع أبو علقمة في حفرة ببعض الطرق يومًا، ويأتي الناس ليأخذوا بيده ويخرجوه من ورطته، إذا هو يتحدث إليهم بما لم يعهدوه، وليته استعمل كلمة واحدة غريبة، لكان الأمر هيّناً.

لكن الرجل عمد إلى قاموسٍ بعيد عن أسماع الناس، وقال لهم بصلف وتيه "ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكأكم على ذي جنةٍ، افرنقعوا عني"؛ فقال بعضهم لبعض: "اتركوه فإن جِنيته تتكلم الهندية"، وهاج به دمٌ فأتوه بحجام؛ فقال أبو علقمة على مُتكلَّفِ عادته: "اشدد قصب المحاجم، وأرهِف ظبات المشارط، وأسرع الوضع وعجِّل النزع، وليكن شرطُك وخزًا ومصُّك نهزًا، ولا تُكرِهن أبيًا ولا تردّن أتيًا". لم يفهم الحجام ولو رُبعَ جملةٍ مما سمع؛ فأجاب: "ابعث خلفي عمرو بن معديكرب، أما أنا فلا طاقة لي بالحرب"!

صادف صفي الدين الحلي في حياته عقلياتٍ غريبة، تنفر من رقيق الشعر وعذب الكلمات، وتركن وتطرب إلى الغريب وإن لم تفهم منه نقيرًا ولا قِطميرا، ولما طفح كيله وبلغ السيل به الزبى وجاوز الرُبَى، اضطر إلى أن يكتب لهم قصيدة منتقاة من غريب القول، جاء فيها (إنما الحيزبون والدردبيس/ والطَّخا والنُّقاخ والعلطبيس/ والسَّبنتي والحَقصُ والهِيقُ/ والهجرس والطُّرقسانُ والعسطوس/ لُغةٌ تنفر المسامع منها/ حين تُروى وتشمئز النفوس/ وقبيحٌ أن يُذكر النافر الوحشي/ منها ويُتركُ المأنوسُ).

إن اللغة من الدين؛ فعلِّموا أبناءكم العربية والتمسوا لها وقتًا من أوقاتكم، ولا تتشاغلوا عنها وتهملوا أمرها؛ فإنك وولدك لن تصلي لله بغيرها، واحرص على تعلّم ولو طرف يسير منها. علّم ولدك أن يزيِّن لسانه بلغة القرآن، وأن يترك عنه العُجمة ما استطاع، ورحم الله القسطلي، وكان في الأندلس كأبي الطيب في الشام، يقول (أَجِدِ الكلامَ إذا نطقتَ فإنما/ عقلُ الفتى في لفظِهِ المسموعِ/ كالمرء يختبر الإناء بصوته/ فيرى الصحيحَ به من المصدوعِ)، وللحديث عن الفصحى حديثٌ يطول.