في ظل البرد الشديد

في ظل البرد الشديد

23 فبراير 2020
+ الخط -
اتصلت منذ أيام بوالدتي المريضة بزكام حاد أقعدها في الفراش نحو عشرة أيام، بسبب البرد والقحط الشديدين اللذين تركا أثرهما المباشر على أجساد أهلنا البسطاء في مدينة الرَّقَّة، الذين ما زالوا يعانون الأمرّين مع غياب توافر مادة المازوت، وصعوبة اقتنائها بسبب أسعارها المرعبة، وإن توافرت بعد التكرير اليدوي فهذا ما يفرح، فإن سعر سعة مائة ليتر وصل إلى خمسة وثلاثين ألف ليرة سورية في هذه الأيام المثخنة بالأسى، بالنسبة للأهالي الذين ما زال أغلبهم متشبّثاً بأرضه وبيته، على الرغم من الخراب والدمار اللذين أصاب جزءاً كبيراً منهما، فضلاً عن أن سعر ليتر المازوت، وبالعودة إلى أيام زمان، أي قبل حوالي تسع سنوات من اشتعال فتيل الثورة، كان يباع بسبع ليرات.

وأذكر أنني كنت، قبل بداية فصل الشتاء، الذي يحضّر له الجميع بتأمين "مونته" المعروفة لدى أهالي المنطقة، ومنها المازوت، أدفع ما يقارب المائة دولار، لأتمكن من تعبئة خزان المازوت الذي يتسع لأكثر من ألف لتر، وهذا الرقم يعتبر كبيراً في تلك الفترة بالنسبة لأغلب الناس العاديين الذين هم غير قادرين بالأصل على تأمين حجم "بيدون" من المازوت لا يتسع لأكثر من خمسة وعشرين ليتراً، وكان حجم الألف ليتر بالكاد تكفي لمدة ثلاثة أشهر في فصل الشتاء.

بالطبع هذا الحجم لمن لديه مدفأة أو اثنتان، وأما من لديه أكثر من مدفأة في البيت الواحد فهذا ما يُحيجه إلى شراء أضعاف الحجم المشار إليه.


هذه الكمية، قياساً بالواقع الحالي، فإن ثمنها يكاد يكون زهيداً بالنسبة إلى قيمتها، في حين أن سعر مائة ليتر من المازوت في أيامنا هذه يصل إلى خمسة وثلاثين ألف ليرة سورية، وهذا ما يعني أن سعر المازوت قياساً بالماضي المجيد ارتفع إلى حوالي نحو سبعة أضعاف وأكثر.

وما سمعنا به عن البرد وقساوته في هذه الأيام أثار فينا الكثير من السخط والريبة والحذر الشديد، ما أبقى أغلب الأهالي مقيمين في بيوتهم متدثّرين "بلحفهم" مع غياب الكهرباء النظامية، وتحمّل الأغلبية منهم دفع فواتير الكهرباء الخاصة "الأمبيرات" التي لم تعد تطاق في ظل الحاجة إليها، فضلاً عن ندرة توافر الغاز وأسعاره المخيفة، وإن توافر فإنه بشق الأنفس، وهذا ما أصاب الأهالي في مقتل، ولعنة حقيقية ما زالوا إلى اليوم يعانون منها!

ما العمل؟ ليس باليد حيلة! هذا فضلاً عن مشكلة البطالة، والمطالب الكثيرة، وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية بصورة مرعبة. والناس مستاؤون في مأواهم، لا حيلة لهم سوى السكوت على ما هم فيه!

وسبق أن أخبرني صديق طفولة أنه اضطر إلى تأجيل زيارة عزاء قريب له توفي منذ أيام بسبب الطقس، وهطول الثلج، ما ألجأه إلى إرجاء ذهابه إلى حين تبدل الحال، وانحسار البرد الشديد الذي هجم بقوة في هذا العام، واستسلم أغلب الأهالي إلى الواقع المزري، وبقائهم عالقين في بيوتهم بسبب الأحوال الجوية السيئة التي شهدتها شوارع الرّقة وتحوّل أغلبها إلى برك من المياه، فضلاً عن "الوحل"، الذي لم تعرفه من قبل بعد أن خلصت الرّقة منه منذ سنوات نتيجة تغيّر واقعها الخدمي، ما يعني أنها أصبحت من أجمل المدن السورية، حتى إنه أطلق عليها "درّة الفرات"، وهذه كانت حالها بالفعل.

فالمواطن اليوم في الرّقّة، إلى من يشكي همومه؟ وأي حكومة يمكنها أن تؤنس وحدته، وتلبي احتياجاته، وهل هي قادرة بالفعل على أن تحل مشكلاته؟ وأي سلطة يمكنها أن تتولى الإشراف وتسيير أمور مدينة ضاقت بأهلها؟

فحال ابن الرّقة أنه ما زال يعاني، وبحرقة، الواقع المر الذي يعيشه بكل مؤسياته اليوم، وهو ما زال يرجو أن تتغيّر الأحوال من حال إلى حال، وهذا ما ينشده.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.