الإنترنت كبير لكن مصر أكبر (1/2)

الإنترنت كبير لكن مصر أكبر (1/2)

23 فبراير 2020
+ الخط -
حين يقول كثر ممن أعرفهم بمنتهى الثقة والحماس: "انسوا المنع في عصر الإنترنت"، رداً على مطالبات كثيرين ممن أعرفهم ولا أعرفهم بمنع كل ما هو موجود على الإنترنت من الأغاني والأفلام والكتب التي يرونها منافية للقيم والأخلاق والآداب، أسأل نفسي عما إذا كان الذين أعرفهم قد سمعوا عن تفاصيل التجربة الصينية في التعامل مع الإنترنت، ولماذا يستبعدون أن يقوم نظام عبد الفتاح السيسي بتطبيق طريقة النظام الصيني في التحكم في وصول شعبه إلى الإنترنت، والتي نجحت بشكل يلهم كل النظم الاستبدادية حول العالم.

عادة، يبني الذين يستبعدون تشديد القبضة على الإنترنت افتراضهم ذلك، على انعدام كفاءة نظام السيسي في التعامل مع الإنترنت، لكنهم ينسون أنّ النظام تمكّن بكفاءة، من حجب مئات المواقع الإلكترونية التي تقدم مضموناً لا يرضيه أو قد لا يرضيه، مراهناً على أنّ جمهور الإنترنت لن يلجأ إلى الإقبال على تطبيقات فكّ الحجب، لأنه يجد استخدامها معقداً بالنسبة له، أو لأنّ بعضها يطلب مقابلاً مادياً، أو لأنّه يخاف من وجود تلك التطبيقات على جهازه، لتكون دليلاً تتم إدانته به حين يتم تفتيش موبايله أو كمبيوتره، وأعتقد أن تأخر النظام في تشديد القبضة على مواقع التواصل الاجتماعي حتى الآن، ليس له علاقة بعدم قدرته على ذلك، بل لأنه يستفيد منها بالفعل، ليس فقط كوسيلة لقياس اتجاهات الرأي العام، بل وكوسيلة لاصطياد المعارضين الذين يتصور أنهم يشكلون خطورة عليه.
لذلك أصبحت عبارة "استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لبث أخبار كاذبة"، التهمة الأبرز في اعتقالات العام الأخير، بعد أن لم تعد تهمة "الانضمام لجماعة محظورة ومساعدتها على تحقيق أغراضها" كافية لتحقيق هدفها في الردع والتخويف، ولا أظن أنّ النظام سيتردد عند اللزوم في فعل ما قام به النظام السوداني في فترة ما، حين قام بقطع الإنترنت عن البلاد بأسرها، لكنه حتى الآن يجد التجربة الروسية أكثر فائدة له، حيث يتم استغلال الإنترنت لاصطياد المعارضين وتشويههم ونشر الأكاذيب والخزعبلات الوطنية، وتحويل الإنترنت إلى سلاح داعم بدلاً من تحوله إلى خطر داهم.
المدهش أنك تتفاجأ وسط هذه المعمعة، ببعض من تظن فيهم العقل والفهم، ينشرون كلاماً يدعم حملة الأذرع الإعلامية للنظام على مطربي المهرجانات، ولا يجدون حرجاً في دعم الدولة للحفاظ على القيم الأسرية والأخلاق والآداب العامة، التي يتصورون أن مطربي المهرجانات يقومون بتهديدها، وكأن النظام الذي يستخدم الفيديوهات الخاصة في تصفية حساباته مع الخارجين على طوعه، ويسلط أزبل الرداحين والشتامين على معارضيه، وينتهك حرمات البيوت وأسرارها، يمكن أن يعبأ حقاً بالأخلاق والقيم.
غضِب بعض هؤلاء حين كتبت منتقداً قيام الوطنجية وعشاق الدولة الشامخة بالاستبسال والحزق في معركتهم الآمنة ضد مطربي المهرجانات، لأنهم يعلمون أنها لن تخبَط في أحد من أصحاب المصلحة والنفوذ، ولذلك وجهوا طاقة الغضب المختزنة بداخلهم في معركة المهرجانات، بعنف لم نشهده في معارك أكثر أهمية تمس حياتهم وأرزاقهم، لأنهم يعلمون أنّ خوض المعارك الحقيقية يمكن أن يفضي بهم إلى ستين داهية. ومع أنّ المهرجانات موجودة منذ سنين، وأغنية "بنت الجيران" التي استفز هؤلاء مقطعها الذي يهدد فيه المغني حبيبته بشرب الخمور والحشيش لو تركته، تخطت حاجز المائة مليون مشاهدة منذ أسابيع، إلا أنهم لم يشاركوا في تلك المعركة بحماس، إلا بعد أن اطمأنوا إلى أنها معركة مسموح بها رسمياً، وإلا لما كان النظام قد سمح لنقيب الموسيقيين هاني شاكر بأن يهاجمها بعنف، ليثبت هجومه أنّ السماح لمطربي الأغنية حسن شاكوش وعمر كمال بالغناء في احتفال رسمي في ستاد القاهرة كان اجتهاداً من مسؤول طائش، ولم يكن توجهاً رسمياً للنظام، وأرجو أن ترجع إلى "الجروبات" التي ينشط فيها مؤيدو النظام، لتلاحظ اختلاف نبرة الهجوم قبل وبعد إعلان نقابة الموسيقيين لموقفها الرافض لما جرى.
بعض المغالين في قراءة كل ما يجري بمنظار نظرية المؤامرة، رأوا أنّ ما حدث كان خطة مدروسة لكي يقوم النظام بتهييج جماهيره على "يوتيوب" بالتحديد، ليتمكّن من إحكام قبضته عليه، مستدلين بقيام بعض النواب بالدعوة إلى فرض ضرائب على الأرباح التي يحصل عليها مطربو المهرجانات وغيرهم من "يوتيوب". مشكلة هؤلاء أنهم يحسنون الظن بالنظام وجماهيره أكثر من اللازم، فبرغم أنّ النظام يمتلك براعة أكيدة في مجال القمع، إلا أنه أثبت في أكثر من مناسبة تخبطه وارتباكه في التعامل مع الأزمات، كما أنه تجاوز مرحلة التسخين والتهييج والفرش ـ ولا أقول التفريش ـ في تعامله مع جماهيره المفوضة على الدوام والتي لم تعد تطيق الحياة بدون حفر على الناشف، ولا أظن أنّ مسألة فرض الضرائب على أرباح "يوتيوب"، يمكن أن تخرج بالمكاسب المهولة التي يتصورها بعض الحانقين والنابرين، لكنها يمكن أن تستخدم لتورية العين الحمراء لكل من يغضب النظام منه من مشاهير "يوتيوب"، وربما استخدمها النظام كذريعة قانونية لملاحقة بعض من لا يرضى عنهم عبر قنوات رسمية دولية، بدلاً من أن يطالب بحجب محتواهم لأسباب سياسية.
في هذه النقطة، كتب الصديق محمد نعيم على صفحته في "فيسبوك" تعليقاً ذكياً ينتقد من يتصورون أنّ النظام راغب حقاً في منع المهرجانات في الأفراح الشعبية عبر نظام الضبطية القضائية الممنوحة للنقابات الفنية، لأنه ليس قادراً على ذلك، وأن كل ما يهدف إليه من وراء هذه الحملة هو تحجيم ما تمثله أغاني المهرجانات، لكي لا تتجاوز الحد المسموح به من النجاح والانتشار، ولكي "يلزم كل قرد شجرته"، ويتأكد النظام من قدرته على السيطرة على المجال العام، وهو أكثر ما يهمه في هذا الموضوع.
في الوقت نفسه، يعرف الناجحون من مطربي المهرجانات أنّ مكسبهم الحقيقي لن يأتي من الأفراح الشعبية وحدها، ولأنهم يعرفون أنّ يد النظام طايلة وطرشة ويستفزها نجاحهم المدهش في عالم الإنترنت، لم يكن غريباً أن يقول أنجحهم وأكثرهم جماهيرية حمو بيكا أنه يرجو من الحكومة أن تحدد له ولزملائه خطاً لكي يمشوا عليه، لكن يبقى من الصعب في ظل انعدام المعلومات عما يجري في أروقة السلطة، معرفة الحد الذي سيذهب إليه النظام في رسم خطوطه الحمراء في هذا الموضوع، وهل سيمد يده إلى مضمون المهرجانات الذي لا يخلو من كثير من الشكوى المريرة، مما يتعرض له المواطنون من ظلم ومهانة في السجون والأقسام والنيابات، وهو ما كتب عنه الصديق أحمد ناجي قبل أسبوع مقالاً بديعاً في موقع "المدن" يقارن فيه بين ما يرد في عدد من المهرجانات عن السجن وعذاباته، وبين الأغاني "المستقلة" التي لا زالت تتحدث عن الأمل وأحلام بكرا وهراء التنمية الذاتية.
لا أظن أنّ مضمون تلك المهرجانات التي أشار إليها أحمد ناجي، يمكن أن يخفى على السادة الضباط خصوصاً حين يرون أبناءهم يستمعون إليها ويرقصون على أنغامها، لكن يبقى السؤال: هل سيكتفي النظام بشد مطربي تلك المهرجانات وتلجيمهم، أم سيذهب إلى مدى أبعد فيفرض بشكل قانوني الرقابة على كلمات المهرجانات قبل نزولها إلى الإنترنت، ويتعسف في التعامل مع من يخالف ذلك؟، أم أنّ الموضوع كله سيظل مجرد "كارت إرهاب" إذا لم تتم قراءته جيداً ممن تم رفع الكارت في وجهه، سيتم اللجوء الغشيم إلى خطوات أبعد تضرب المربوط والسايب والمغني والمستمع؟

كتعبير عن هذه الهواجس التي تشغل بال مطربي المهرجانات، نشر حمّو بيكا، قبل يومين، على صفحته الرسمية مهرجاناً بعنوان "أنا الفن البسيط" غناه زميله أحمد فيلو الذي ربما تم اختياره لأنّ صوته الرخيم يبدو أقرب إلى الذائقة العامة المحبة للفن الجميل، في المهرجان الذي وزعه كالعادة فيجو الدخلاوي وكتبه إسلام المصري، اختفت روح التحدي التي تميّز المهرجانات في التعامل مع "الأخصام" والمنافسين، ليقدم كلاماً اعتذارياً عن الشباب الغلابة "اللي مش عصابة" لكنهم "مش متهنيين" والفن البسيط الذي يبهج الناس، موجهاً رسالة إلى أولي الأمر، تجدد الدعوة التي سبق أن أعلنها حمو بيكا، وتقول بصريح الأغنية: "اجمعونا فهّمونا نورونا عن الصحيح"، وهو موقف ليس غريباً على الإطلاق، لأن مطربي المهرجانات ليس لديهم رفاهية القيام بالخطوة التي أعلن عنها مثلاً "الرابر" مروان بابلو، حين كتب، أخيراً، أنه لن يقوم بعمل المزيد من الحفلات لأسباب شخصية.
لم يكن غريباً أن يلجأ كبار نجوم المهرجانات إلى إعلان رسائل كهذه طلباً للتهدئة، على عكس جمهور المهرجانات الذي يطالبهم بالمزيد من التحدي والاعتماد فقط على الإنترنت وأرباحه، وعلى عكس مطربي مهرجانات أقل شهرة لا يبدو أنهم مشغولون بالضجة التي حدثت أخيراً، لأنهم يعلمون أنّ الحكومة غشيمة ومتعافيّة، ويمكن أن تؤذيهم إن لم يكن بالاعتقال المستند إلى مواد قانونية موجودة بالفعل، أو إلى مواد قانونية يمكن طبخها في ساعات، فبتلفيق القضايا أو فتح الملفات القديمة أو نشر الفضائح، أو في أطيب الأحوال بتقفيل أسباب الرزق في الحفلات والأفراح، واليوتيوب إن لزم الأمر.
الرسالة ببساطة موجهة إلى كل من صار يعتبر الإنترنت ملاذاً: لا تظن أنك يمكن أن تكون مسنوداً على الإنترنت، لأنه لا سند لك أو لغيرك سوى الدولة، كن واقعياً واعرف أين تعيش، وإذا كان الإنترنت كبيراً فمصر أكبر. لذلك أعتقد أنّ كل مطرب مهرجانات أو صانع محتوى على الإنترنت رأى فيديو الاسترحام والاستعطاف الذي سجله حسن شاكوش وعمر كمال، وهما يطلبان من "الشعب المصري" أن يسامحهم على جريمتهم الشنعاء بإدخال الخمرة والحشيش في المتن الغنائي، لكي لا يتم التضييق على رزقيهما أكثر، سيبحث على الفور عن سكة توصله إلى لواء جيش أو مخابرات، عامة أو حربية لا يهم، المهم أن يكون لواءً عاملاً في الخدمة وليس متقاعداً، أو يكون نسيباً للواء لم يتقاعد بعد، ليذهب لتأدية فروض الولاء والطاعة في حضرته، ويطلب منه إيصاله بالضابط المسئول الذي يحدد له الوصفة التي تجعله مطرباً وطنياً، ليكون على استعداد أن يغني ما يُملى عليه، على أن تسمح له الدولة بالشقاوة، مثلما تسمح بها لنجمها المسنود محمد رمضان، لدرجة أن النقيب "الهِزبر" هاني شاكر بعد أن هاجم أغاني محمد رمضان، عاد ليقول إنه ليس مسؤولاً عنها لأن رمضان يتبع نقابة المهن التمثيلية.
وإذا وضعت هذا الموقف إلى جوار طريقة تعامل الدولة مع نجمها أحمد عز برغم الأحكام القضائية الصادرة ضده لإنكاره التزاماته تجاه طفليه من الممثلة زينة، ستجد الرسالة واضحة: دوّر نفسك مكتب وسلم نفسك للدولة وإلا سلمتك للوحوش، واحرص على ألا يغضب منك الضابط المسؤول، وأن تعمل بكل جهدك على إطالة رضاه عنك، وعندها حتى إذا لم يتوقف الهجوم الشرس عليك، فلن يكون له تأثير حقيقي عليك، وحتى جمهور النظام من أنصار الطرب الأصيل وأيام زمان الحلوة، سيكتفي بشتيمتك على صفحته الشخصية، لكنه لن يشترك في أي نشاط جماعي ضدك، وربما قرر أن يتبنى موقف "صحيح ما باحبوش بس هو لون موجود على الساحة".
...
نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.