انجعاصة الناقد الشفهي وأيامه الخوالي

انجعاصة الناقد الشفهي وأيامه الخوالي

03 فبراير 2020
+ الخط -
شاهدته مؤخراً يجلس في صدارة الحاضرين لفعالية فنية مهمة، فذكّرني وجهه العابس المتجهم ببدايات معرفتي معه قبل ربع قرن، وكان وقتها يحتفظ بنفس ذلك الوجه العابس، الذي يقوم تجهمه بتصدير صورة كاذبة عن شخصيته، ويوحي بأن لديه أحزاناً وجودية ينوء بحملها في صدره فتنضح على وجهه.

كنا زميلين في صحيفة حديثة الصدور، وكان يكبرني ببضعة أعوام، وكان يحب أن يعرف نفسه على الآخرين باسمه الثلاثي، لعلك تعرف حين تسمعه أن أباه هو ذلك الكاتب ذائع الصيت الذي كانت مطبوعة شهيرة تنشر له مقالات في زاوية أسبوعية تحمل عنواناً من نوعية (هموم ثقافية)، وكان الأب قد حرص على أن يختار لنفسه صورة يبدو فيها متجهماً ومهموماً لتتناغم مع عنوان بابه الأسبوعي، وكنت حين أقرأ كتاباته أعجز عن فهم سر نشرها المنتظم، فلم يكن فيها شيء يميزها، لا سلباً ولا إيجاباً، مجرد كلام إنشائي يرصه فوق بعضه دون أي لمسة خاصة أو قيمة مضافة، حتى أصبحت أميل إلى أن المقصود بعنوان الباب، أنه يصيب من يقرأه بالهم من فرط ثقل ظله، وحين قرأت بعد ذلك قصص الأب وبعض قصائده وجدتها تشبه كتاباته الصحفية، لا طعم لها ولا لون، لكن لها أحياناً رائحة "مِكمكمة"، هي رائحة الأفكار البايتة، فأصبحت أميل إلى أن الأب أخذ موقعه في الحياة الصحفية والأدبية بالأقدمية، وكنت أقول لنفسي أحياناً: ربما منحه الله تلك المكانة لأنه كان باراً بأمه أو ينفق بيمينه ما لا تعرفه يسراه، ثم كنت ألوم نفسي على تركيزها معه أكثر من اللازم، بدلاً من أن تنشغل بآخرين نالوا مكانة أكبر منه، مع أنهم يكتبون أردأ منه، ولا يكفون عن أذية الآخرين على عكسه، فهو لم يكن يؤذي أحداً سوى قرائه.

كنت شغوفاً بمعرفة الفرق بين كتابة زميلنا وكتابة أبيه، لكن الابن كان يرفض كل دعوات الكتابة التي كان يوجهها رئيس التحرير للعاملين في قسم الديسك المختص بإعادة الصياغة لما ينشر في الصحيفة، مكتفياً بأداء مهامه في العمل والاشمئناط لا يفارق وجهه أبداً، سمعته مرة يفسر لزميل رفضه لدعوات الكتابة التي كان يتسابق إليها الجميع، قائلاً إن الكتابة الصحفية تقضي على الموهبة الأدبية، ففهمت أنه ينوي خلافة أبيه في ملاعب الأدب، وقلت لنفسي ربما منحه الله بعض ما حُرم منه أبوه، لكنني أدركت أن الله لم يكن أبداً في صف تلك العائلة، حين قرأت مجموعته القصصية الأولى التي أصدرها بعد أن هجر صحيفتنا وغادرها للعمل في صحيفة قومية كبرى.

كان فشل تلك المجموعة القصصية كارثياً، ليس لأنها كانت أسوأ مجموعة في الكون، بل لأن رداءتها جاءت على مزاج ضحاياه من شباب الصحفيين الذين لم يكن يكف عن السخرية من أسلوبهم في الكتابة، مخالفاً أهم تقاليد الديسك وهي: "ما يحدث في الديسك يبقى في الديسك"، لأن جميع الصحفيين يحبون تصديق أنهم أصحاب أساليب متميزة في الكتابة، ويتعاملون بعدائية شديدة مع من يواجههم بحقيقة أنفسهم، حتى لو فعل ذلك بأسلوب لطيف، فما بالك حين يفعله بغلظة وعدوانية، ولذلك لم يضيع هؤلاء فرصة السقوط الأدبي لصاحبنا، فانهالوا عليه تريقةً وبَستفَةً في القعدات والسهرات، وكان أولاد الحلال وهم كثير كما تعلم يتطوعون بإيصال ما يقال عنه أولاً بأول، حتى أن بعض رائقي البال، لم يرد لتلك الإفيهات الشفهية أن تذهب أدراج الرياح، فكان يقوم بتوثيقها ويكتبها ويرسلها إليه في البريد على عنوان صحيفته الجديدة.


كان تأثير تلك المهارشات عليه أقوى مما تخيلت، فقد كنت أظنه صلداً مثل أبيه، الذي كان يؤمن بشعار "البقاء للأصدغ"، أما هو فقد أخذ كل ما قيل عنه بجدية، فكانت تلك مجموعته القصصية الأولى والأخيرة، بل إنه نقل نشاطه من مجال الصحافة الثقافية إلى الصحافة الفنية، لكنه ربما بسبب عقدته من الكتابة، بدلاً من أن يصبح كغيره ناقداً سينمائياً أو مسرحياً، تحول إلى ناقد شفهي ينقد جميع أنواع الفنون بفمه وليس بقلمه، وكان الفضل في ذلك يرجع لإحدى صديقات زوجته التي كانت معدة برامج في إحدى قنوات التلفزيون الحكومي، وكانت تستضيفه بانتظام في كل البرامج التي تتولى إعدادها، فعلت ذلك في البداية مجاملة لزوجته، لكنها دأبت على استضافته بعد ذلك تقديراً لموهبته في الحضور في أي موعد يُطلب منه، دون أن يكثر من الأسئلة عن طبيعة البرنامج أو عن من يقدمه، وكان اسم الصحيفة الحكومية الكبرى التي يعمل فيها كافياً لمنحه الشرعية اللازمة للظهور في البرنامج، وتبرير الاستعانة المتكررة به.

بعد حلقة أو حلقتين، أصبح لملامحه المتجهمة العابسة معنى مختلف في التلفزيون، ففي حين كانت سبباً لنفور الجميع منه في أروقة الصحف، أصبحت على شاشة التلفزيون دليلاً على جديته كناقد، خاصة أنه كان حريصاً في كل مداخلاته على التأكيد على انهيار الفنون المعاصرة، ونشر رسالة الحنين إلى زمن الفن الجميل، والتي بدأ انتشارها بقوة في منتصف التسعينات، وتحول هو سريعاً إلى أحد رسلها المخلصين، فلم يعد مطلوباً فقط من صديقة زوجته، بل وأصبح يظهر في برامج مختلفة في القنوات الحكومية، ولأن معدي تلك القنوات كانوا في الغالب الأعم مسئولين عن إعداد برامج التلفزيون في القنوات الفضائية الناشئة، فقد أصبح يظهر في تلك القنوات أيضاً، لكنه لم يعد يظهر مجاناً، بل أصبح يتقاضى عن عبوسه وتجهمه مقابلاً مادياً لم يكن يحلم به، وفي وقت قصير صار لاسمه شنّة ورنّة لم يحصل عليهما نقاد مخضرمون سوّدوا آلاف الصفحات في النقد الأكاديمي والصحفي، لكن شهرته وآثار النعمة التي أصبحت جلية على جلده وشعره وملابسه، لم تدفعه أبداً لتغيير "وشّه الكِشِر" الذي أصبح عدة الشغل الرئيسية له.

كنت إذا شاهدته خلال تقليبي في القنوات التلفزيونية، أسارع بتغيير القناة التي يجثم عليها، لأنني لم أكن من محبي رؤيته في الحياة العادية، لكي أحب رؤيته على الأثير، لكنني اضطررت لمشاهدته ذات مرة، حين اتصل بي صديق وطلب مني أن أفتح القناة الثالثة بسرعة، لأن صاحبنا كان يتكلم عني فيها. كان أول فيلم لي قد رأى النور قبلها بأسابيع وحقق نجاحاً جماهيرياً لم أكن أحلم به، وكتب عنه بعض النقاد كتابات لا بأس بها، وحتى الذين هاجموا عملي منهم كانوا رفيقين بالفيلم نفسه تقديراً منهم لمخرجته الشابة، ومع ذلك لم أستغرب حين شاهدته دوناً عن غيره ينهال على الفيلم طعناً وتمزيقاً، فقد كان بيني وبينه ما صنع الحداد، منذ أن خضنا خناقة عنيفة في الصحيفة التي تزاملنا فيها، حين طلب مني رئيس التحرير أن أعيد صياغة موضوع خرج من تحت يده، دون أن يلقى العناية اللازمة التي طلبها منه، وحين رآني أقوم بإعادة صياغة ذلك الموضوع، لم يقم طبعاً بإعلان غضبه على رئيس التحرير، بل صبه علي، فاتهمني أنني أقوم بانتقاد شغله، وأسعى للوقيعة بينه وبين رئيس التحرير الذي اتهمني بنفاقه وتملقه، واستغرب حين لم أقم بتجاهل الرد عليه كما كان يتوقع من شاب في بداية المشوار، بل شخرت له على الفور وهممت بالاشتباك معه، لولا أن قام زملاء العمل بالفصل بيننا.

ما اندهشت له حين شاهدت تلك المداخلة، كان إصرار الزميل القديم على أن يتحدث بحماس عن الفشل منقطع النظير الذي لقيه الفيلم، وعن اللحظات الحزينة التي قضاها في قاعة عرض خالية إلا من عدد قليل من الرواد، لم يكن أحد منهم يضحك على الإطلاق، وهو ما يعد قمة الفشل لفيلم كوميدي يفترض أن يكون جماهيرياً، مع أن الفيلم ظل لأسابيع يلاقي نجاحاً ساحقاً، شهد به حتى النقاد الذين هاجموه، وكان يمكن أن يفعل ما فعله بعضهم، فيرجع أسباب ذلك النجاح إلى براعة أبطال الفيلم ومهارة مخرجته، لكنه قرر أن يكون نقده بناءً أكثر من غيره، فبعد أن تحدث عن فشل الفيلم الذريع، نصح الأبطال والمنتج والمخرجة بعدم تكرار تجربة العمل معي في فيلمهم القادم إذا أرادوا تحقيق النجاح والبعد عن الفشل.


بعدها بيومين، وحين حكيت لأصدقائي على المقهى ما شاهدته في المداخلة، قال لي أحدهم إنه كان سيستغرب جداً لو لم يقم صاحبنا بمهاجمة الفيلم، وأن علي أن أتوقع مع كل فيلم لي هجوماً كاسحاً يشنه علي تكفيراً عما قمت به بحق زوجته، وبعد أن غالبت ذهولي، طلبت منه أن يشرح بسرعة ما يقصده، لكي لا نخوض في الأعراض وتكون ليلة أهله سوداء، فقال لي إن خناقة صاحبنا معي في تلك الليلة الليلاء في الديسك، لم يكن سببها الموضوع الذي قمت بإعادة صياغته مجدداً، بل كان وراءها تشنيعة كنت قد أطلقتها على زوجته التي كان قد أعلن خطوبته عليها، وكانت زميلة لنا تعمل في قسم الاقتصاد، وكانت غريبة الأطوار وحادة الطباع، لدرجة أنها دخلت مرة في خناقة غير مفهومة مع عامل البوفيه، فقامت فجأة بإخراج قاطعة أوراق "كَتَر" من حقيبتها، ولوحت بها في وجهه، فظن بعضنا أنه قام بالتحرش بها، ولم يصدقوا حلفاناته على المصحف أن الخناقة كانت على عدد أكواب الشاي التي حاول أن يحاسبها عليها، وهي رواية أكدتها حين قالت هازئة بأنه لو كان قد تحرش بها لما تأخرت في تشريح وجهه، وأنها أخرجت "الكَتَر" لأنها لم تعجب بـ "تون صوته" معها، فقررت أن تثبت له أن التعامل معها يجب أن يكون بحساب، وفي غمرة الإفيهات التي أطلقناها على المقهى عما حدث، قلت إن ارتباط الاثنين المتجهمين ببعضهما أمر طبيعي، وأن المرء لا يمكن أن يمنع نفسه من التفكير كيف ستكون طبيعة ملامحهما حين يصلان إلى "الأورجازم".

كان الإفيه سافلاً دون شك، ولست فخوراً به، لكن آخرين قالوا يومها ما هو أسفل وأزبل، ولم يتطوع أحد بإيصال ما قالوه مثلما حدث معي، ولذلك كان علي أن أدفع ثمن انفلات لساني الغضّ وعدم اختياري الجيد لجلساء السوء، لكنني مع ذلك استغربت أن الناقد الشفهي لم يقم بمواجهتي في يوم الخناقة، ليجبرني على الاعتذار له، وأظن أنني كنت سأعتذر له وسأسترضيه هو وخطيبته، بدلاً من أن يكنّ لي ضغينة تثقل صدره وتزيده عبوساً وتجهماً، فيضطر لرمي فيلمي بما ليس فيه، مع أنه كان يمكن أن يكتفي بنقده بما يرضي الله، وقد كان فيه قطعاً ما يستحق النقد، مثله مثل غيره من الأفلام.

كان بديهياً بعد ما سمعته في تلك المداخلة، ألا أهتم بما يقوله عني الزميل القديم، خاصة أنني لم أكن ضحيته الوحيدة، لأنه بعد الانتشار السرطاني للقنوات الفضائية، أصبح ضيفاً محبباً في كثير من برامجها التي تستضيف صناع الأفلام، وتستضيف معهم بعض النقاد الغلاظ الشداد، لتدور بين الطرفين مواجهات عنيفة يتسلى عليها الناس، ومع الوقت ظهر له منافسون أكثر تجهماً وأسلط لساناً، فسحبوا من تحت وجهه البساط، لكنه كان قد تمكن من تكرار سيرة أبيه، فحصل بالأقدمية على لقب "الناقد الكبير"، ولم يعد يكتفي بالنقد الشفهي وحده، بل أصبحت تنشر له مقالات نقدية منتظمة في عدد من الصحف، يكتب فيها بنفس طريقة أبيه عن همومه الفنية والثقافية، ويترحم فيها على زمن الفن الجميل الذي لم يعد يقتصر على الخمسينات والستينات فقط، بل دخلت السبعينات والثمانينات والتسعينات في نطاقه، ويلعن فيها الظروف التي ابتلينا فيها بعديمي الموهبة الذين يحتلون مواقع ليسوا أهلاً لها، ليكتسب مع تكرار نشر تلك المقالات في عدد من الصحف مكانة معنوية، هي التي جعلته يجلس في الصفوف الأولى للفعاليات الفنية متجهماً ومنجعصاً، ومحاطاً بتلاميذ له أكثر رداءة وتجهماً، لتذكرني انجعاصته بتلك الأيام "الخواري"، التي أصبحت للأسف تجد من يترحم عليها، لأنه أصبح يعيش في أيام "أخرا" منها.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.