هزليات السياسة الأسدية (36)

هزليات السياسة الأسدية (36)

15 فبراير 2020
+ الخط -

يجب أن نقف ضد حقوق الإنسان

(هناك نكات شائعة، يعرفها عددٌ كبير من الناس، ويروونها في مجالسهم للتندر). 

هذا ما قاله كمال في مستهل جلسة الإمتاع والمؤانسة، وأضاف بأن تلك القصص، رغم كونها شائعة، لذيذة، وذات مدلول طيب.. منها حكايةُ الرجل الذي كان يخترع قصصاً ويلقيها على الناس في المضافة لأجل التسلية. وذات مرة خطر له أن يبالغ في التأليف، فقال إنه وصديقاً له تعرضا، في يوم من الأيام، للسرقة، في مدينة الرقة، بالقرب من نهر الفرات، ولكنهما تمكنا من إمساك الحرامي، وقتلاه، ولفاه ببطانية، وألقيا جثته في النهر! 

الحظ شاكس ذلك الرجل الكذوب، إذ سأله أحد الحاضرين: في أي سنة حصل هذا؟ ولأن الكذابين لا يرمون أسلحتهم بسهولة، فقد أعطى لمن سأله تاريخاً معيناً، قال: قتلناه ورميناه في النهر في أواخر سنة 1987، فتنمر عليه الرجل وقال إنه وأهله عثروا في تلك السنة على جثة ابن عمهم "فلان" ملفوفة ببطانية وملقية في النهر. وهذا يعني أن الرجل الكذوب هو القاتل. 

اضطرب الرجل، وخاف، وصار يحلف أيماناً معظمة على أنه كان يكذب لأجل التسلية، وأنه طيلة حياته لم يقتل أحداً، بل ولم يتعرض للسرقة، ولم يزر الرقة ولا يعرف نهر الفرات. 

ختم كمال حديثه بالقول: أحب أن أذكركم  بأن صديقنا أبو المراديس حول هذه الحكاية إلى تمثيلية قدمها ياسر العظمة ضمن سلسلة مرايا في سنة 2000. 

قال أبو ابراهيم: نعم، أنا شفت تمثيلية "حبل الكذب" أكثر من مرة، لكن ما فهمت أيش العبرة من حديث الأستاذ كمال عنها بهالوقت.

قال كمال: نحن عم نحكي عن هزليات السياسة في عهد حافظ الأسد، وأنا راح إحكي لكم قصة هزلية بتشبه قصة حبل الكذب اللي حكينا عنها.

قال أبو ماهر: تفضل. عم نسمعك.

قال كمال: نحن الكتاب والمثقفين اللي عايشين في محافظة إدلب كان عددنا قليل، وأما الفروع الأمنية الموجودة في إدلب فكل واحد منها فيه جيش عرمرم من الضباط والعناصر والمتفرغين والمخبرين والشبيحة، منشان هيك كانوا يتسلوا فينا، وكلما دَقَرْ الكوز بالجرة كانوا يستدعونا للتحقيق، بحجة إنه في عندهم معلومات جديدة عن نشاطاتنا المشبوهة. وعلى فكرة، رغم كونهم كتيرين، وميزانياتهم المالية ضخمة، ونحن قليلين، كانت معلوماتهم عنا مضطربة ومشتتة، حتى إنه فرع الأمن السياسي كان عامل تصنيف لصديقنا أبو المراديس على أنه شيوعي بكداشي. 

أطلق أبو ماهر صفرة طويلة وقال: بكداشي؟!

قلت: الأستاذ كمال عم يشير لحكاية صارت معي لما استدعوني لفرع الأمن السياسي بسبب محاضرة ألقاها المرحوم برهان بخاري في المركز الثقافي بإدلب. واحد من أهل المدينة كان عنده نَفَس ديني مطعم على نَفَس مخابراتي، بعت تقرير للأمن السياسي بيقول فيه إن ما ورد في محاضرة برهان يمكن أن يمس مشاعر دينية لدى شريحة من الشعب. طبعاً هذا كذب، والتقرير كيدي، ولكن هوي استخدم كلمة "الشعب" لحتى يكبر التهمة ويثير حفيظة ضباط الأمن، باعتبار البعثيين بيحبوا كلمة شعب. هون لازم فرع الأمن السياسي يستدعي برهان بخاري ويسأله عن الموضوع أو يحقق معه، لكن برهان ألقى المحاضرة في إدلب ورجع لمكان إقامتُه بمدينة دمشق. ومتلما بتعرفوا المخابرات بهيك حالة ما بيوقفوا مكتوفين الأيدي، بعتوا عنصر من طرفهم لمدير المركز الثقافي وسأله: إنه ليش دعيتوا برهان بخاري ليلقي محاضرة في إدلب؟ ومين اللي اقترح عليكم تدعوه؟ فقال له المدير: اقترحه خطيب بدلة، فاستدعوني للتحقيق بالنيابة عن برهان. 

قال أبو محمد: كنتوا تقولوا لي إنه سورية بتصير فيها أشياء صعب الواحد يصدقها، وأنا كنت إستغرب.. لكن هلق عرفت إنه اللي ما بيشتغل بالسياسة مستحيل تمر معه هيك قصص. 

قال أبو ماهر: وشو جاب سيرة البكداشي؟

 

قلت: أنا قلت للمحقق إني هاي أول مرة بعرف إنه اقتراح إسم شخص لإلقاء محاضرة في المركز الثقافي بيسبب مساءلة أمنية. وسألته عن سبب إحجامهم عن استدعاء الأستاذ برهان شخصياً وسؤاله عن الأشياء اللي وردت في متن تقرير المخبر المحترم. هون لاحظت إنه عم يبتسم وقال لي: لا تعصب علينا أبو مرداس، نحن طلبنا منك تزورنا حتى نتعرف عليك ونصير أصدقاء، وخاصة إنه نحن البعثيين وإنتوا الشيوعيين منشتغل سوا ضمن الجبهة الوطنية التقدمية، يعني نحن رفاق. قلت له: مين قال لك إني شيوعي؟ فقال لي: لا تخليني إزعل منك، نحن نعرف كل شي، أنت شيوعي ومكلف بمراسلة جريدة "صوت الشعب". قلت له: قصدك صوت الشعب تبع يوسف فيصل؟ قال لي: ما في داعي تتذاكى علينا، أنت عضو في اللجنة المنطقية مع جماعة خالد بكداش!

قال كمال: هاي القصة بتعطيك فكرة قوية على مدى الغباء اللي كانت تتمتع فيه الأجهزة الأمنية السورية رغم الإمكانيات والصلاحيات الهائلة اللي موجودة بين إيديها. على كل حال أنا بدي يحكي لنا الصديق أبو مرداس عن التهمة التانية اللي حاولوا يلزقوها فيه. 

قلت: أنا وكمال لازم نعتذر لبقية الحاضرين عن الخوض في هاي السيرة لأنها خاصة جداً، وإلها علاقة فقط بعالم الأدباء والمخابرات. بس عن جد هاي القصة غريبة، وكتير بتشبه قصة حبل الكذب اللي كتبتها لياسر العظمة. 

قال أبو إبراهيم: بيكفي تشويق. ممكن تحكي لنا القصة؟

قلت: بعد سنة 2000 صارت تعمل في سورية منظمات إلها علاقة بحقوق الإنسان.. والنظام السوري قرر إنه يبطش بأفراد هاي المنظمات بدون شفقة، لأنه هادا النظام حتى وجوده مخالف لحقوق الإنسان. وفي مرة من المرات التقيت بعنصر مخابرات في اتحاد الكتاب العرب، وسألني سؤال مرعب. قال لي: صحيح متلما عم نسمع عنك إنك رئيس منظمة حقوق الإنسان في إدلب؟ في هاي اللحظة انخضيت خضة قوية، وكل جسمي صار يرجف، ونشف ريقي تماماً، وصرت إحلف له للعنصر أيمان مغلظة على إني (أنا ضد حقوق الإنسان)، وإني صحيح بيظهر علي إني حباب وطيب ومسالم لكن أنا في الواقع دكتاتور، ولو يكون في إيدي سلطة كنت تحولت لطاغية!   

       

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...