إدلب.. حينما تصدَأ أقلامُنا قهراً

إدلب.. حينما تصدَأ أقلامُنا قهراً

15 فبراير 2020
+ الخط -
في الملمات لا مكان للمقدمات.. إن ما يحدث لأهلنا في إدلب والشمال السوري يجعل كل ذي قلب وحس إنساني يتوارى خجلاً من ضعفه وعجزه، فكل ما نقدمه ونحاول تقديمه يتلاشى أمام هول المأساة. وليس أقسى على الإنسان من أن يجد نفسه مكبلاً، في الوقت الذي ينتظر منه الناس أن يفعل الكثير، وما يزيد الألم ألا يكون ذلك نتيجة ضعف، وإنما عن خجل وتصاغر أمام عظيم ما يحدث.

منذ الأزل لم يكن للكتّاب إلا أقلامهم، هي سلاحهم يقارعون به الظلم والطغاة، وهي جهدهم الذي يشفع لهم أمام الناس، ودليلهم على أنهم جزء لا يتجزأ عن مجتمعهم في السراء والضراء. أما أن يصل بك الحال إلى لحظة تشعر فيها أن سلاحك الوحيد الذي كنت تقارع به قد سُلب منك وبطل مفعوله في أشد حاجتك إليه، فذاك والله قهر الرجال!.

تحاول أن تقاطع الشبكات الاجتماعية والقنوات وتتجنّب مجالسة الناس، حتى لا تسمع المزيد من الأخبار التي ينفطر لها قلبك العاجز، ولكن عبثاً تحاول!. 

يصل بك الحال إلى أن تتحاشى النظر في وجه طفلك حتى لا تتراءى لك صورة القهر والحرمان المرتسمة على وجوه آلاف الأطفال على امتداد الشريط الحدودي.

تعاف نفسك الطعام الذي تغَص به وأنت تتخيل آلاف المهجرين الذين يتضورون جوعاً.

تحس بوخز الضمير من دفء جسدك، في الوقت الذي ترتعش آلاف الأجساد في العراء قهراً وبرداً. 

أينما توجهت تتراءى لك آلاف الصور والمشاهد التي تدينك وتذكرك بعجزك وتقصيرك. أين تذهب من كل تلك القيود التي تكبل عقلك وتعقد لسانك، فتترك كلماتك حبيسة قلبك الذي يكاد يتفطّر ألماً؟. ثم تريد لقلمك بعد كل ذلك أن يبقى دفّاقاً ويقاوم الصدأ؟.. نعم الصدأ، فالصدأ يكبل الأقلام كما ينخر العجز النفوس. 

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. ونحن نرى ذلك العجوز السبعيني وهو يذرف دموع القهر بعد أن اضطر مكرهاً لترك أرضه ودياره التي قضى فيها عمره، ليبدأ رحلة النزوح والتهجير التي سبقه إليها ملايين السوريين؛ وما زالوا. 

نعم.. تصدأ أقلامناً قهراً لا عجزاً.. ونحن نرى ذلك الرجل الذي حمل طفلته على ظهره ذات صباح، ومشى بها ساعات في البرد القارس ليوصلها إلى المشفى، علّه يجد فيها العلاج والدفء اللذين عجَز عن توفيرهما لها، ليتفاجأ حين وصوله أن ابنته ميتة من البرد، وقد كان يحمل جثتها طول الطريق!. كم يحتاج قلبك من الشجاعة للنظر في صورة تلك الطفلة؟ وكيف لقلمك أن ينطق أمام هول هذا المشهد؟ ومن أين له بتلك القوة لمواصلة النحت على الورق، وأنت تعلم أن كل قوى الأرض -ولو اجتمعت- لن تمده بقوة وعزيمة ذلك الرجل!.

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. أمام جسد ذلك الطفل المرتعش من البرد، وهو يلعب بالطين أمام خيمته التي أصبحت بالنسبة له بقايا وطن، وصورة مستقبل أشد مرارة من الحاضر.

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. حين يصبح الحصول على خيمة حلماً لآلاف الأسر المهجرة، في الوقت الذي يتفاخر فيه قوم من بني جلدتنا -زعموا- ويرفعون رؤوسهم بـ (مرحاض) مرصّع بالذهب الخالص!.

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. حين نرى طوابير الحافلات التي تحمل آلاف العائلات وملايين الذكريات، تنتظر أن تخرج من جحيم القصف إلى مناطق أقل رعباً، وقد حوصروا في شريط حدودي لا يتعدى الكيلومترات، وأوصدت أمامهم الأبواب من كل جانب، وكأنهم مرض معدٍ. 

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. وقد أضحى شهداؤنا أرقاماً لا أكثر، تزداد كل يوم، وإن قُتل جندي أو مرتزق من الغزاة تسير الطائرات لتلقي بحممها على الأبرياء العزّل من جديد، حتى صرنا نحمد الله إن مر يوم وكانت والغارات وحصيلة الضحايا فيه أقل من الأمس!. 

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. ونحن نشاهد أرضنا التي تحررت بدماء خيرة شبابنا تُقتَطع الواحدة تلو الأخرى، جراء مراهقات فصائلنا، وفي سبيل إثبات نظريات وعبقريات بعض القادة العسكريين التي فاقت عبقرية خالد والمثنى وعمرو بن العاص!. 

نعم.. تصدأ أقلامنا قهراً لا عجزاً.. حين نرى الرجل يتنزّى قلبه ألماً وهو يرى قطع جسده أمام عينيه، يتضورون جوعاً وبرداً، ومنّا مَن لا يزال يتلذذ بنشر صور طعامه وشرابه ولباسه على شبكات التواصل، ويشبع عقد نقصه في استعراض الأماكن والمتنزهات التي زارها. 

نعم.. تصدأ أقلامنا.. وحق لها أن تصدأ. فللقلم روح وأحاسيس مرهفة تضاهي أحاسيس الكثير من البشر. 

ولكن.. تلك الأقلام رغم صدئها ينبغي ألا تعجز وألا تتوقف، فهي الشاهد الوحيد للمستقبل على عظيم مأساتنا، وهي الدليل على انحطاط العالم -كلِّ العالم- وتآمره علينا.

دلالات

E369BD0D-C383-46BD-8721-E6766ECDA42B
محمود كريم

صحافي سوري خريج جامعة حلب قسم اللغة العربية، معد برامج وتقارير إخبارية لمؤسسات إعلامية سورية عدة.