عندما سقطت الطائرة

عندما سقطت الطائرة

14 فبراير 2020
+ الخط -


ضجت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قبل أيام بخبر إسقاط طائرة مروحية لجيش الأسد، كان الفرح سيد الموقف، ولعل الفرح هنا أمر غير مفهوم لدى الكثيرين أمام كارثة تحطم طائرة تستدعي المواساة والحزن عادة، لكن للحدث عند السوريين تفسيراً آخر.

عشت هذه الحادثة مرات عديدة وأشدها التصاقاً بالذاكرة تلك التي حدثت قبل سبع سنوات من اليوم تماماً. الثالث عشر من شباط 2013، تبدأ زوجتي بالولادة، إنه طفلنا الأول، وصلنا إلى المستشفى وبعد ساعات عادت طبيبة لتطرح عليّ واحداً من أغبى الأسئلة التي قد تسمعها في حياتك: هل تريدون الجنين؟ كان السؤال مقدمة لتخبرني الطبيبة أن حياة الجنين في خطر، ويجب إجراء عملية قيصرية عاجلة قبل أن يختنق، وافقتُ ووالدة زوجتي على الأمر، مع إحساس بخيبة الأمل من الجنين البكر الذي تحمّل ظروفاً لا إنسانية ومعارك مجنونة شهدتها المنطقة ثم عندما حانت ساعة ولادته قرر أن يشنق نفسه بحبله السرّي!

بعد توتر يعيشه أب للمرة الأولى سمعت صراخه غاضباً محتجاً، ولم يكد صوته يصل إلى آذاننا حتى أخرسته طائرة حربية ألقت بحمولتها من القنابل على منزل بالقرب من المستشفى فقتلت عائلة نازحة بأكملها، وأمام ثنائية الموت والحياة وقفت تائهاً بين طفل كان يرفض المجيء وزوجة فاقدة الوعي.

في المساء وصلنا إلى البيت، هدأ الطفل الغاضب ولم تهدأ الطائرات، دمرت بيوتاً عديدة، قتلت أيضاً امرأة عجوزاً كانت تستعد لتناول طعامها وغدت صورة سفرتها المختلطة بدمائها واللقمة المنتظرة في يدها واحدة من الصور الأيقونية في مأساتنا.

طوال تلك الليلة كنت أحاول جاهداً حلّ معادلة، طرفها الأول أن يبقى الطفل ووالدته دافئين في مكان لا كهرباء فيه، مستخدماً للمدفئة مازوتاً أسود، مكررا محلياً وشبه متجمد، وطرفها الثاني ألّا يختنق الاثنان بالرائحة الكريهة المنبعثة من المازوت، والثالث أن تبقى النوافذ مفتوحة حتى لا تتحول إلى شظايا تقتل الجميع أو تشوههم في الغارة التالية!

استدعت المعادلة البقاء ساهراً طوال الليل لضمان تدفق المازوت إلى المدفئة، تخللت ذلك لحظات غلبني النوم فيها وأنا أحاول تصفح أحد المعاجم بحثاً عن اسم للطفل، حيث رأيت الطفل في حلم وطلب مني أن أسميه حمزة، فكان له ما أراد!

في الصباح بدأت الاستعدادات ليأخذ السيد حمزة حمامه الأول، ما أذكره حينها أني كنت أحمل الكاميرا في يدي وأصور الطفل وهو يتقلب بين يدي جدته ونظرات أمه وهي تراقبه من سريرها، عندما زعقت طائرة حربية مطلقة صواريخها التي صفقت النوافذ والأبواب وجعلت بعض قطع الأثاث تتساقط وسط حالة من الرعب والذهول وغبار غطى الحي كاملاً. أسفرت الغارة عن مقتل طفلين كانا يلعبان أمام بيتهما الذي يبعد عنا أقل من مئة متر.

في تلك اللحظة يا عزيزي القارئ، لا تملك إلا أن تقف مهزوماً كجرذ مسحوق، حائراً بين نظرات زوجتك غير القادرة على الحركة، وبين بكاء طفلك الذي يقول لك: أهذا هو العالم الذي أردت مني ألّا أشنق نفسي لأجله؟ أهذه هي الحياة التي اخترتها لي؟

بقينا نعدّ الغارات منتظرين دورنا في ذلك اليوم حتى الظهيرة، وفي أقصى حالات الهزيمة أمام جبروت نسور الجو أبناء الوطن، وفي اللحظة التي قال فيها الراصد على الجهاز اللاسلكي: الطيار في التنفيذ.. انقضَّ!

في تلك اللحظة التي تطول كألف يوم قبل أن تعرف أنك نجوت ومات غيرك... تبدّل كل شيء وصرخ الراصد: سقطت!

"سقطت" ليست للقنبلة، وليست للصاروخ، كنا نعرف أنها للطائرة! ركضت كالمجنون غير مصدق، حافياً إلى الشارع، حيث كانت هناك، تتخبط في السماء تاركة خيط دخان وكتلة من لهب وبقية رهبة ممزقة.

والشارع الذي كان خالياً قبل لحظات بات يعجّ بأناس يكبّرون ويصفرون ويصرخون ويضحكون... وكلهم شامتون.

عدت إلى الغرفة لأخبر زوجتي التي كانت تحتضن الطفل محاولة حمايته غير مصدقة سقوطها، وأكّدت لها أنها سقطت بالفعل، ورحت أشرح ما حدث في الشارع ومشهد السقوط. لم يكن سقوط الطائرة انتصاراً عظيماً ولا تحريراً لمدينة مثلاً، ولكنه كان كافياً لينقل أهل البلدة من حالة الطريدة التي تفرّ للنجاة بحياتها إلى حالة المطارِد المنتصر، من حالة الخائف المرتعد إلى حالة الشامت المتشفي.

وبعد أقل من ساعة عادت الطائرات مجدداً، لتنتقم للأولى، وعدنا لنحبس أنفاسنا في انتظار أن يخطئنا الموت، وكما حدث في المرة الأولى، ومع عبارة "الطيار في التنفيذ" عاد الراصد ليقول: سقطت!

كان تكرار الكلمة أكبر مما يمكن لعقولنا أن تتحمله، رحت أرقص وأقفز في مكاني، وانطلقت حافياً كما في المرة السابقة إلى الشارع لأتلذذ بالمشهد. حتى أن زوجتي خرجت هي الأخرى إلى الشارع تجرّ نفسها لتشاهد "بنت الكلب" التي أحالت حياتها جحيماً.

في ذلك اليوم 14/2/2013 أسقط ثوار مجانين طائرتين لنظام مجرم مستخدمين رشاشات متوسطة، وحولوا اليوم إلى عيد حب حقيقي، بات من الصعب أن تسقطه الأيام من الذاكرة.

بعد ذلك بأربع سنوات غادرتُ سورية، واحتاج حمزة سنتين حتى يتوقف عن البكاء خوفاً عند رؤية الطائرة، أية طائرة حتى لو كانت من ورق، وفي عيد ميلاده السابع بدا وكأن الطائرة ما عادت تعني له شيئاً، حتى أنه لم يفهم لماذا كنت أرقص فرحاً بسقوطها قبل أيام. ورغم آلاف الكيلومترات التي تفصلني عنها، رقصت وفرحت وشمتّ وكأنني ما زلت في ذلك الشارع، وتمنيت لكل الطائرات القاتلة أن تسقط، وأن ينساها الأطفال السوريون إلى غير رجعة!

دلالات