سنة أولى كتابة (1/3)

سنة أولى كتابة (1/3)

13 فبراير 2020
+ الخط -
الكُتَّاب يفكرون الآن بالفشل أو النجاح.. قالها ممتعضًا وهو ينظر بعيدًا، قبل أن يواصل: "سنة 1932، نشرت كتابي الأول، واتفقت مع دار النشر أن تطبع 300 نسخة، وزّعت ثلثيها على أصدقائي، واتجهت بما تبقى إلى ألفريدو بيانتشي، مدير مجلة "نوسوتروس"، فصرخ في وجهي: هل جُننت؟ أتريد مني بيع 100 نسخة؟ ساد الصمت مدة غير قصيرة، لا سيَّما مع دخول فراش مكتبه بالقهوة الطازجة، وقد ألجمت رائحتها السخية لساني.

تمهلت لحظاتٍ حتى رشف قليلًا من قهوته، وأغمض عينيه متلذذًا بمذاقها، وهمست له دفعة واحدة: بالطبع لا أريد بيعها، أريدك فقط أن تضع في كل معطف - من معاطف محرري نوسوتروس - نسخة، لعلّي أحظى ببعض الكتابات النقدية. ضحك بيانتشي حتى وقع على قفاه، وقال لي: عزيزي خورخي لويس بورخيس! سيصبح لك شأن في دنيا الأدب.

يومها، لم يشغل بورخيس نفسه بالنجاح والفشل، شاغله الأول أن يكتب ويضع قدمه في الميدان، ثم تأتي التحسينات مع مواصلة المشوار. يثير الكتاب الأول في نفسك شعورًا جديدًا، يضعك في تحدٍ مع ذاتك قبل كل شيء، تسأل نفسك: هل أواصل المسيرة؟ ولما لا؟ ما فكرة الكتاب الثاني؟ من أين أبدأ؟ كيف أستثمر محصلة الكتاب الأول في عملي المقبل؟ إن هاجمتك حشود أسئلة من هذا النوع، فأنت مشروع كاتب ربما تترك أعمالك أثرًا، أما لو انحصر همك واهتمامك في سؤال: كم ربحت ماديًا من هذا الكتاب؟ فتُب إلى الله من ذنب الكتابة، وابحث عن مشروعٍ آخر.

قليلون من حققوا نجاحًا ماديًا - أو حتى معنويًا - من الكتاب الأول، هذا وليم فوكنر من أبرز كتاب فرنسا، كتب أربعة أعمال قبل أن يعرفه الناس، وهناك - في فرنسا أيضًا - كلود سيمون، وتعجب حين تعلم أنه أصدر أربعة مؤلفات - على مدى عشر سنوات - لم يُسمع بها. فوكنر وسيمون كانا أطول نفَسًا من عادل كامل، صاحب رواية "مليم الأكبر"، واصلا الإنتاج الأدبي رغم إهمال الجمهور لهما.


نتيجة الإصرار والمثابرة الممتزجة بموهبة أدبية حقيقية، وضعت الأقدار الكاتب الأميركي شيروود آندرسون في طريق فوكنر، فكان يد العون الصادقة لأدب فوكنر وقدّمه للقراء، أما سيمون فابتسم له الحظ سنة 1956، يومها عرفه رولان بارت أثناء بحثه وصديقه جيروم ليندون عن أدباء شبان، لتقديمهم للقراء ونشر أعمالهم، وقتها وقعت في يد بارت - وبالصدفة البحتة - مخطوطة رواية كلود سيمون "الريح"، اهتز بارت من فرط الحماسة للرواية، وقرر مقابلة صاحبها والتعاقد معه.

والتقط صاحب نوبل، غابرييل غارسيا ماركيز، خيط الحديث، قال متنهّدًا: هذه نصيحة رددتها كثيرًا على شباب الأدباء، لم أذهب إلى دولة أو أتحدث في ندوةٍ إلا مررت بها، أرجوكم لا تربطوا أنفسكم بموعد مسابقة ما لتجهزوا على أدبكم، أتوسل إليكم خذوا وقتكم في الحمل قبل الوضع، لا تنجبوا أطفالًا مشوهين لا لشيء إلا لرغبتكم في الإنجاب الأدبي!

تكاثفت سحب سيجارته فوق رأسه وهو يضيف: أتعرف ما المدهش في الموضوع يا هذا؟ -مشيرًا إلى شخصي الضعيف - ودون أن يترك مجالًا للرد على سؤاله تابع تدفق كلامه: المدهش أن الموضوع "مهروس"، وكابده الأدباء عن بكرة أبيهم بلا مبالغة، خذ مثلًا ماريو بارغاس يوسا، واجه هذا الأمر، أو لأسميه هذا الوباء! وباء التسرع والاستعجال في نشر الأعمال، وخرج يوسا باستنتاج مفاده "في اللحظة التي يجلس فيها أي كاتب ليكتب، فإنه يقرر ما إذا كان سيصبح كاتبًا جيدًا أم كاتبًا رديئًا".

كلام يوسا يحتاج من الأديب الشاب أن يركز، وألا يترك المسائل تفلت من بين يديه، لكن هيهات! من أين لي بشباب لا يتسرع إلا القليل، وبينما يشعل سيجارة من أخرى، ضحك ماركيز ضحكة صفراء حمالة أوجه، وقال: كنت في مكسيكو سيتي، فجاءني شابٌ في النصف الأول من عقده الثالث، نشرت روايته الأولى قبل نصف سنة أو أقل، وبحماسة منقطعة النظير أبلغني بأنه أقبل من عند الناشر، وقد سلّمه مخطوطة عمله الثاني! لم أتمالك نفسي من الدهشة وقلت له: يا صديقي! أنت في بداية المشوار، فلم العجلة؟!

أجابني الأديب الشاب ببرود أعصاب غريب، ومنطق أغرب مما توقعته قائلًا: "عزيزي ماركيز! أنت تفكر كثيرًا قبل أن تكتب لأن العالم بأسره يقرأ لك، أما أنا فأكتب بسرعة لأن قلةً من النّاس يقرأونني". في هذه اللحظات، ضربت سواحل عقلي أمواج حكمة يوسا؛ فهذا الشاب قرر من البداية أن يكون كاتبًا رديئًا، واستعمل الأدب مطية ليس إلا، لذلك لم يواصل المشوار وغيّر المسار بعد قليل، انتقل إلى عالم المال والأعمال؛ فالأدب لن يُكسبه المال من جهة، ومن أخرى لم يقدّم نفسه للقارئ بصورة تستحق الاهتمام.

من حديث يوسا وماركيز، يدرك الأديب الشاب أن الأدب الجيد يحتاج مثابرة، وأن كثرة النشر غير الناضج لن تشفع لصاحبها، سيظن أنه مغبون ومهضوم الحق الأدبي، وأن الشهرة أهملته وقلبت له ظهر المجن، ربما يدير ظهره لعالم الكتابة ويسلك مسارات أجدى ماديًا. لو تأنى في النشر ومحّص كتاباته، ربما يجد نفسه في وقتٍ مناسب وسط أجواء الكتابة، ولعُرف بأسلوبٍ يؤطر كتاباته ويميز وجوده بين أقرانه، ليست مسألة "العدد في الليمون"، لكنها مسألة "واصطنعتك على عيني"؛ فماذا اصطنعت لنفسك وتخيّرت لها من الكتابة؟

كثيرًا ما يسألني بعض الأصدقاء: ما مغزى اهتمامك بأدب ابن المقفع والجاحظ وأبي حيان التوحيدي وغيرهم؟ ولماذا تدمن قراءة كتب التراث؟ أليس في كتابات المحدثين والمعاصرين الكفاية والغُنية؟ جواب هذا السؤال له أبعاد شتى، أختار الآن منها جانبًا يتعلق بما دندن به ماركيز، جانب الأصالة والتكثيف، لا أقصد بالتكثيف التقنية المعروفة في كتابة القصة القصيرة، إنما أعني الاهتمام المتقن بإيجاز المعنى وجمالية الأسلوب؛ فلا إسهاب ممل ولا إيجاز مخل، فضلًا عن وضوح بصمة أو لمسة خاصة يضعها الجاحظ ويسجل بها ملكيته الفكرية، وإن تأثر بابن المقفع، ثم يأتي التوحيدي - وكان مولعًا بلقب "الجاحظ الثاني" - فحرص على أن يتميز عنهما بشيء يُحسب له.

لو بحثت اليوم في كثيرين من الأدباء، ستجد نفسك تائهًا في ساحة "تيان آن من" الصينية، -المعروفة بساحة ميدان السماء - وليست المشكلة هنا، إنما الأدهى والأمر أنك تبحث عن أحدهم، فكيف تميزه من بين تلك الحشود؟ إن لم يظهر لك سمة يتميز بها عنهم، فلا أمل على الأغلب أن تصل إليه. إذن مدار العبارة على الأصالة لارتباطها بالتأثير أو الأثر، أثر يتركه المبدع في نفس قارئه، أثر يتيح لمتابعيه التعرف إليه من بين كتّاب كُثُر، أثر أشبه بالكواشف الكيميائية المستخدمة في تمييز المواد عن بعضها.

الإجابة عن سؤال ابن المقفع والجاحظ تجرنا للحديث عن أسلوب الرجلين، وذلك وفق عبارة الكونت جورج دي بوفون "الأسلوب هو الرجل"، لكن الأولى أن نخصص مساحة مستقلة للحديث عن أسلوبهما، ونكتفي هنا بالإشارة إلى سعيهما للتفرّد الأدبي، وتركهما مفاتيح يُسترشد بها إلى هذا التفرد، ويحتاج الأديب إلى عمل مكثف ليكتشف مساحة التفرد في كتاباته؛ فيكون أسلوبه غير المطروق مرآة عمله، ويترك في الأذهان طابعًا لا يتكرر، ويتشوّق النّاس إلى كتاباته مقارنة بغيره.

يردنا ذلك كله إلى مسألة أخرى، هل الأدب الاستعجالي يقضي على صاحبه؟ أليس في الأدب الاستعجالي مزية على الإطلاق؟ وهل بالضرورة أن ينتظر المبدع علو السّن ليعرفه الجمهور؟ أليست الشهرة المبكرة تقوي الظهر وترفع الرصيد الأدبي والبنكي؟ كل هذه الأسئلة متاحة للنقاش لا سيّما في عصر الثورة الرقمية، ليس شرطًا أن يصل المرء إلى سن الستين كما في حالة إمام الدعاة الشعراوي رحمه الله، والفنان حسن عابدين، والسبعين في حالة أيقونة التشاؤم الفيلسوف شوبنهاور، وبعد الأربعين عند بيومي فؤاد وسيد رجب وصبري فواز وآخرين، لكن الأثر هو المحك؛ فكل هؤلاء مع تنوع مجالاتهم تركوا بصمات متفردة، والأدب الاستعجالي في حد ذاته سلاح ذو حدين؛ فإما أن يقفز بصاحبة قفزة فيليكس، وإما أن تهوي به الريح في مكانٍ سحيق.

دلالات