راحة القلب تبدأ من القدمين

راحة القلب تبدأ من القدمين

13 فبراير 2020
+ الخط -
«يعشق وجه قاتله القتيل»

...

لم أكن أعلم أنني سألقى على يديها أو قل إن شئت الدقة على أهداب عينيها مصير البطل اليوناني الأسطوري أخيل.

كان أخيل لمن لا يعلم محاربًا موهوبًا ،جَنْدَل العشرات من الفرسان وحسم العديد من الحروب بسيفه المفرد، لكنهم عندما عثروا على جثته أثناء فتح طروادة وجدوه ميتًا وفي كعبه سهم، فخُيِّل لرفاق أخيل أن نقطة ضعف ذلك المحارب العملاق كانت كعبه، وتحوّل هذا التخيل عبر العصور إلى اعتقاد راسخ وسؤال في برامج المسابقات. بينما الحقيقة المرة أن نقطة ضعف أخيل لم تكن كعبه أبدًا، فكيف يمكن لمن كان ينتزع بيده الرماح والسهام من جسده ويواصل القتال أن ينهزم على يد كعبه!

المسألة ليست كذلك على الإطلاق.. كل ما في الأمر أن نقطة ضعف أخيل كانت أنه وقع كالدلو في هوى بريسيس أجمل أميرات طروادة التي كانت أسيرة عنده لفترة وجيزة قبل أن يصبح هو أسيرًا عندها بعد أن استردها أبوها وأعادها إلى مدينتها سلميّا.

كان المحاربون المتدفقون على حصون طروادة مشغولين بالسيطرة على المدينة، بينما كان أخيل يجري كالمجنون في أروقة قصور طروادة باحثًا عن محبوبته لتأمينها من بطش غوغاء الجيش المهاجم، حتى عثر عليها أخيرًا عالقة وسط النار والدمار، ولأن مجرد رؤيته لها كانت تحوله من فارس إلى فرس فقد تخلى وقتها عن كل غرائزه القتالية التي طالما أنجته، مقررًا وقد أعمى العشق بصيرته أن يحتضنها معبرًا عن شوقه ولهفته وحبه، وبينما هو ساه في غمرة حضنها إذ بأمير طروادة الشاب باريس يعاجله بسهامه الغادرة، ومع أن أخيل كان في وضع مثالي للقتل إلا أن سُمعته المهيبة وتاريخه المشرف في ملاعب الدم جعلا يد مهاجمه ترتبك رغمًا عنه ليستقر السهم الأول في كعب أخيل الذي لم يكن يحتاج إلى سهم لكي يفقد توازنه، الذي كان قد فقده للدقة منذ أن سمح لهوى بريسيس أن ينتشر في مسام روحه كقضاء الله المستعجل.

هوى أخيل بفعل هواه لا بفعل السهم الراشق في كعبه، نظر إلى عيني قاتلته قبل أن يلتفت نحو عيني قاتله، رأى في عينيها جيشًا عرمرمًا من الأحلام يسقط صريعًا مجندلا، رأى سفنًا كاملة من الأماني تحترق، رأى قلاعًا من الصخر تتهاوى متداعية تحت رقة الموج، رأى فرسانًا سبقوه وفرسانًا سيلحقون به يسلمون مفاتيح حصونهم لعيون فتاكة منكسرة متكسرة، رأى كل هذا ثم نظر إلى عيني قاتله يسأله أن يوفر سهامه القادمة لجسد لم يذق طعم الهوى، لم يفهم قاتله ما بين السطور لأنه لم يكن يجيد القراءة فوالى إطلاق سهامه، توالت السهام على أخيل كأنها لطمات على خده توبخه وتذكره بأنه الذي جابه لنفسه عندما تخيل أن انكسار عيني بريسيس هو تكريس لرجولته، وهو الآن يدرك أن ذلك الانكسار كان إيذانًا بنهايته.


سقط أخيل بين أحضان نقطة ضعفه وهو ينزع السهام عن صدره وجسده الذي لم ينزف دمًا بعد أن صفّى العشق دمه، سقط معه عنترة والعباس بن الأحنف وأنطونيو وأبونا آدم وقيس بن ذريح وقاهر ابن خالتي وقيس بن الملوح ووالده الملوح وعمر بن أبي ربيعة وعماد الفايد وروميو ووالده شكسبير ومحمود حسن إسماعيل وديك الجن الحمصي.

مالي أنا ولأخيل.
أنا لم يدخل في كعبي سهم بعد.. مرة دخل فيه مسمار عندما كنت أجري هاربًا من أن تطولني عصا أبي الذي تعود على ضربي بها عندما لا أصلي الصلوات المفروضة في جماعة، سقطت على الأرض أتلوى من الألم وهو يواصل ضربي متوعدًا إياي بفظائع عذاب الله دون أن يعلم أنني لقيت وعدي بالفعل، ليس وقتها بل بعد ذلك بسنوات طويلة عندما وقعت كما وقع أخيل.

الذي أعلمه أنني لم يُرشق في كعبي سهم، لكنني أعلم أيضًا علم اليقين أن قلبي رُشق بسهم من قوس عينيها، صحيح أنني لا أذكر هل كان سهمًا مريشًا أم سهمًا سادة، لكني أذكر أن ذلك حدث بالفعل ذات يوم من العشر الأواخر في شهر يونيو عام ألفين أو هكذا أظن، كنت كأخيل أبحث عن أمان لنفسي الضائعة وسط أحلام لن تتحقق وعلم لا ينفع ودعوات لا يستجاب لها، أجلس على مكتبي أكتب مقالا ناريّا أعلم أنه سينطفئ فور عرضه على رئيس التحرير الذي سيمنع نشره، حولي زملاء مهنتي أو قل شركائي في الجريمة التي نرتكبها بحق الحقيقة كل ثلاثاء، خلفي شعاري الفكري الجديد «دعه يعمل دعه يمر»، في قلبي تصفر الريح وتركب خيبات الأمل سربًا من الجمال المتجهة إلى المدبح، في جيبي سبعون جنيهًا وفاتورة أكل من "دجاج تِكّا" بمبلغ موازٍ، باختصار تستطيع أن تقول إن أخيل كان وقت مداهمة السهم لكعبه في حال أفضل مني بكثير.

لا أذكر هل كان كعبي متواريًا مع بقية قدمي خلف مكتبي الألوميتال أم أنه كان خارج المكتب بصحبة قدمي كعادتي عندما أكتب، لكنني أذكر أني كنت في مكتبي في الدور الثاني في مبنى أبيض اللون من طابقين في الزمالك بالتحديد في شارع حسن صبري الذي أمر في شارعه كل يوم دون أن أتشرف بمعرفته شخصيّا، كان الباب مغلقًا على همومنا ونكاتنا البذيئة وإفحاشنا بحق رئيس تحريرنا المناضل سابقًا الاستراتيجي حاليا، شعارنا في الحياة كتبناه بالكمبيوتر على لافتة ورقية علقناها في صدر المكتب «إن جاء زيد أو حضر عمرو.. طب واحنا مالنا إنشالله ما حضروا»، لكن المشكلة أن الذي لم يحضر لم يكن زيدًا ولم يكن عمرًا. كانت هي التي حضرت ولم يكن لها من دون الله كاشفة. فجأة فتحت الباب فاتجهت الأبصار نحوها تلقائيّا، كانت تعرف هدفها جيدًا كأنها تدربت عليه مرارًا وتكرارًا، برشاقة فراشة امتشقت السهم من شنطة يدها وأطلقت سهمها دونما سابق إنذار، ودون أن يشعر أحد بما فعلته سواي، لأني أنا الوحيد الذي تألم بالطبع.

بهدوء القاتل المحترف ودون أدنى شعور بالذنب سألت عني كأنها لا تعرفني، كأنها لم تتعاقد مسبقًا على قتلي، كأنها لم تصوب سهمها لي وكأنها لم تصبني، سمعت الإجابة على سؤالها من أحد شهود العيان وهي تنظر إليَّ بعينين مدربتين على التأكد من إصابة الهدف في مقتل، عندما تأكدت من إصابة الهدف لمقتله اتجهت نحوي وسلمت وجلست تراقبني وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة في حضرتها،وهي تسأل الله المغفرة لذنبها وتقرأ الفاتحة على روحي التي لا يعلم الكثيرون أنها طاهرة.

ما الذي حدث لي بعد ذلك؟
لا يمكن أن أفترض في من يسأل هذا السؤال شيئًا سوى الغباء؛ فأنا نفسي الذي قلت منذ قليل إنني لفظت أنفاسي الأخيرة.

أعرف أن الأمر يبدو محيرًا فأنا كثيرًا ما أقابل أشخاصًا يعتقدون أنني حي، بل إن بعضهم يبادر بثقة وعفوية لاحتضاني والتربيت على كتفي وسؤالي عن حالي وعن المدام والأولاد، أهز رأسي مجاملا دون أن أعرف عن ماذا يسألون ولا بماذا أجيبهم. طيلة الوقت أسمع الناس يتكلمون عني وعنها كثيرًا، أسمعهم يقولون إنني عشت وإنني تقدمت لخطبتها وإنني رُفضت ولُفظت وإنها قاتلت من أجلي وإنني قُتلت من أجلها وإنني تزوجت غيرها وإنني رقصت في فرحي بل وسكنت في المعادي وأنجبت ولدًا صبوحًا كالقمر، لعله الولد الذي كان يسألني عنه البعض كلما قابلني، والبعض من هؤلاء البعض يستغربون عندما أسألهم هل يعرفون ما إذا كنت سعيدًا في حياتي، بعضهم يشتمني ويتهمني بالاستعباط عليه بينما يأخذني البعض على قد عقلي ويجيبني، وبعض هؤلاء البعض يقول إنني كنت سعيدًا في حياتي وإنه شاهدني بالفعل وأنا سعيد ويقسم على ذلك وإنه كان يطرب من سعادتي وينهر من يغيرون من سعادتي مقسمًا أنه ليس من أولئك الغيورين، ويقول البعض إنني لم أكن كذلك وإنه كان دون غيره يشعر بي وبتعاستي لكنه لم يكن يصارحني لكي لا يقتحم خلوتي، يقول البعض إنني كسبت فلوسًا كثيرة وأنفقتها كلها، يقول البعض إنني كتبت كثيرًا وإنني قرأت كثيرًا وغنيت كثيرًا وكسبت كثيرًا وأنفقت أكثر وبكيت كثيرًا وضحكت قليلا وخاصمت كثيرات وصالحت كثيرين.

يتحدثون عن أشياء كثيرة لم أشعر بها مطلقًا، فكل ما أشعر به ألم فظيع في كعبي.

...

من مجموعتي القصصية الثانية (ما فعله العيّان بالميت) والتي يعاد طبعها قريباً، أهديها إلى كل العشاق سيئي الحظ وكارهي يوم "الفالنتاين".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.