محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (4)

محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (4)

12 فبراير 2020
+ الخط -
التنظيرة السادسة: رسالة من طنط ليلى
إذا كنت من الذين رزقوا بخلفة البنات مثل حالاتي، لا أدري كيف يكون موقفك حين تستمع إلى أغنية "بكره لما تكبري.. تكتر العرسان عليكي"، التي تغنيها ليلى مراد من ألحان محمد فوزي وكلمات عبد العزيز سلام، وهل ستبكيك مثل ما تبكيني حين أستمع إليها؟ مع أنها كان يفترض أن تكون أغنية مبهجة بحكم ارتباطها بمناسبة عيد الميلاد الذي ينبغي أن يكون سعيداً، وتعال لنسمعها سوياً ثم نكمل كلامنا:


حين استمعت إلى الأغنية لأول مرة، لم أكن أعرف أنها جزء من فيلم (ضربة القدر) الذي أخرجه يوسف وهبي عام 1947، وحين عرفت ذلك قلت إن الحزن الذي غلب على لحنها وطريقة ليلى مراد في أدائها، ربما كان مرتبطاً بتفضيلات يوسف بيه الميلودرامية، خاصة وأنه اقتبس قصة الفيلم عن رواية للكاتب الفرنسي إميل زولا، وحين قرأت قصة الفيلم قلت إن الطابع الحزين الذي غلّف الأغنية كان مبرراً لأنه مرتبط بدراما الفيلم، فليلى مراد لا تغني تلك الأغنية لابنتها التي من لحمها ودمها، بل تغنيها لطفلة الرجل الثري الذي تعمل لديه، والذي يعاني من إدمان أم طفلته للقمار، وليلى نفسها في الفيلم داست عليها الدنيا، حيث غدر بها حمدي أو يحيى شاهين وهرب إلى الخارج، بعد أن سقاها "حاجة أصفرة" وغرّر بها.

لكن هل كان ذلك مبرراً كافياً لغناء أغنية مليئة بكل هذا الحزن في عيد ميلاد طفلة بريئة؟ ألم يكن يفترض بليلى مراد ومحمد فوزي وعبد العزيز سلام أن يوفروا الحزن لبقية أغنيات الفيلم، ويصنعوا لعيد الميلاد أغنية مفعمة بالبهجة؟ خاصة أن يوسف وهبي حين قام بإخراج الأغنية جعل طفلة عيد الميلاد ترقص على أنغامها، فجاء رقصها مرتبكاً ـ هل أقول "ملخفناً" ـ بين الشرقي والغربي، وهو ما يدل على سلامة أذنها الموسيقية، لأن الموسيقى جاءت أقرب إلى الجنائزية منها إلى البهججة، ولذلك لن تجد أحداً في محيط الحفلة، وقد ظهرت على وجهه علامات البهجة والسرور، وعلى رأسهم يوسف بيه الذي اختار لنفسه في الكادر مكاناً يجلس فيه خلف ليلى، يصوب نحوها نظرات حادة وهو يأخذ من سيجارته نفساً عميقاً، فلا تشعر بأنه والد هذه الطفلة التي تحتفل بعيد ميلادها، بل تكاد تحسبه يفكر في قتلها ليرتاح من همها، ولذلك كله بدت عبارة "إنشالله إنشالله إنشالله عقبال ميت سنة"، التي يكررها كورال الأطفال مع ليلى مراد، كأنها ليست دعوة بطولة العمر، بل حكماً بالأشغال الشاقة المؤبدة.


لم يكن الفيلم واحداً من أوائل الأفلام التي لحنها الرائع محمد فوزي، لكي تلومه على سوء تلحينه للأغنية، فقد قام قبله بتلحين أغنيات أكثر من عشرة أفلام، ولذلك يبقى التفسير الأكثر منطقية هو أن محمد فوزي لا يحب أعياد الميلاد، أو فلنقل إنه لا يراها مناسبة سعيدة، بقدر ما هي مناسبة مثيرة للشجن المحفوف بالنكد، لأن على الإنسان ألا يكون من البلاهة بحيث يزيط ويزقطط لأنه خسر عاماً من عمره، بل عليه أن يتعامل مع المناسبة بروح درامية لا تغرق في الحزن، لكنها لا تستبعده تماماً من الصورة، وشاهدي على ذلك الظن أن أغنية عيد الميلاد الأخرى التي صنعها محمد فوزي، لا تقل شجناً عن هذه الأغنية، أتحدث بالطبع عن أغنية "يا نور جديد.. في يوم سعيد.. ده عيد ميلادك أحلى عيد"، والتي غناها لمديحة يسري في فيلم (نهاية قصة).

لم يكن ليوسف وهبي دور في هذا الفيلم، فقد كتبه علي الزرقاني وأخرجه حلمي رفلة، وأغنية عيد الميلاد هذه المرة لم تكن لطفلة، وإنما لـ "شحطة" طول بعرض، مما جعل جرعة الإحساس بمضي العمر وانفراط عقده تزيد، فبدأ فوزي أغنيته بهمهمات حزينة للكورال، وبرغم أن حلمي رفلة ملأ الكادر بسبع راقصات ارتدين ملابس بيضاء، وبذلن أقصى جهدهن في التمايل على الأنغام، وبرغم أن محمد فوزي يصب في وسط الأغنية كأسين من الشمبانيا ليشربها هو ومديحة، إلا أن كل ذلك لم ينجح في إضفاء روح البهجة على الأغنية، مع أن محمد فوزي كما تعلم واحد من أبرز القادرين على صناعة البهجة إن أراد، وهو ما جعلني أشعر أنه حين بدأ في الإعداد لأغنيات الفيلم أصر على أن يستدعي الشاعر عبد العزيز سلام دوناً عن كل الشعراء الذين تعاون معهم طيلة مشواره الفني، وقال له: "عبعزيز، هل تذكر أغنية عيد الميلاد الكئيبة التي صنعناها ليوسف وهبي قبل أربع سنوات؟ أريد أن أصنع أغنية آشد كآبة منها لهذه المناسبة، لكي نساهم في تغيير مفهوم أعياد الميلاد لدى بلهاء الناس الذين يعتبرونها مناسبة سعيدة؟". وأظن أن عبد العزيز سلام كان يشاطر محمد فوزي كراهيته لأعياد الميلاد، مع أنه كتب الكثير من الأغنيات المبهجة والراقصة لكثير من المطربين والمطربات، على رأسهم فريد الأطرش الذي كان أكثر الشعراء تعاوناً معه، ومع ذلك فحين قرر فريد الأطرش أن يعلن كراهيته المتطرفة لأعياد الميلاد، لم يجد ضالته عند عبد العزيز سلام، بل وجدها لدى كامل الشناوي الذي غنى من كلماته أغنية عيد الميلاد المفضلة لكل من تجاوز الأربعين: "عدت يا يوم مولدي.. عدتَ يا أيها الشقي".

بالطبع ستسقط نظرية المؤامرة هذه، فور أن يكتشف أحد أن محمد فوزي صنع أغنية مبهجة عن أعياد الميلاد، وهنا ستصبح المسألة كلها مجرد صدفة، جعلت الشهرة النسبية من نصيب أغنيتيه الكئيبتين لعيد الميلاد، وحتى يحدث ذلك لا يبقى لنا إلا أن نتعامل مع الأغنيتين بوصفهما دليلاً على كراهيته لمناسبة عيد الميلاد، والتي بدأت بأغنية "بكره لما تكبري" المخصصة لأعياد ميلاد الأطفال. حين عرفت أن ليلى مراد تزوجت أنور وجدي قبل عامين من غنائها لتلك الأغنية، شعرت أن تجاوبها مع ما في الكلمات واللحن من حزن، كان مرتبطاً بتجربتها التي لم تكن سعيدة على الإطلاق مع الزواج، وأنها حين تقول للطفلة في مطلع الأغنية: "بكره لما تكبري.. تكتر العرسان عليكي"، لا تقول ذلك كأمنية، بل كتحذير، لكن ظروف المجتمع لم تكن تسمح وقتها بأن تكمل قائلة: "فخلي بالك عشان هيطلع عين أهلك لو اخترتي غلط"، وربما لو أتيحت الفرصة للشاعر لجعل صياغة المطلع هكذا "بكره لما تكبري.. هتتجوزي وتفرفري"، لكنه شعر أن المجتمع لن يتقبل كلمة "تفرفري" من فم ليلى مراد الرقيق.

لدي شعور قد يكون مخطئاً أن ضمير ليلى مراد أملى عليها أن تحذر الطفلة في الكواليس، بما لم تتمكن من قوله في الأغنية، ولذلك تبدو الطفلة بطلة المشهد حزينة طيلة الأغنية، خصوصاً في المقطع الذي تخبرها ليلى مراد بأن العرسان "هيكتروا عليها"، وهو معنى يحيل إلى تكاثر الذئاب والوحوش الضارية حول فريسة ما، ولن تجد فارقاً كبيراً في المعنى بين "يكتروا عليكي" و "يتكاتروا عليكي"، ولدي شعور أن ليلى مراد بما عرف عن طيبة قلبها، لم تختص طفلة عيد الميلاد بالتحذير، بل قامت بتعميمه على جميع الفتيات المشاركات في الأغنية، ولذلك تراهن يصدرن حركات أقرب إلى اللطم، وهن يتمايلن قائلات: "إنشالله إنشالله إنشالله عقبال ميت سنة".

ربما كان كل ما أظنه صحيحاً، وربما كنت أخطرف وأسقط هواجسي ومخاوفي الشخصية على الأغنية، يعني، دعني أذكرك أن هذه السطور في النهاية مجرد تنظيرة، لا تهدف إلى إفساد علاقتك بأغنية فوزي وليلى مراد، بقدر ما تهدف إلى تذكيرك إذا كنت قد رزقت ببنت، أن تحاول تربيتها، بشكل يجعل آخر همها في الدنيا أن "يكتر العرسان عليها".

ربنا يخلّي "إنشالله إنشالله إنشالله".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.