ما قاله الكرسي للمقعدة!

ما قاله الكرسي للمقعدة!

11 فبراير 2020
+ الخط -
هل يحن كرسي الحكم إلى مقعدة الحاكم المخلوع؟ وهل تحن هي بدورها إليه خصوصاً حين تطول عِشرتها معه؟ ذاك سر لا يعلمه إلا الإثنان..

أعلم أن الكراسي لا تنطق، لكن المقعدات تنطق بلسان أصحابها، ولا شك أنها لو نطقت على لسانهم لبثت الكثير من أشواقها إلى ذلك الكرسي الذي قد تتعدد هيئاته وموديلاته وطرائق صنعه، لكنها تعطي للمقعدة التي تجلس عليها أهمية خاصة، تجعلها مقعدة تاريخية، وما كل المقعدات تدخلن التاريخ لمجرد جلوسهن على كرسي فترة طويلة، فقد يجلس الخياط على كرسيه ستين عاماً يرتق ويقصّ ويرفو ولا يفرق كل ذلك مع التاريخ ببصلة، لكن مقعدة أخرى لحاكم طائش قد تجلس على كرسي الحكم عاماً أو بعض عام فيحصل رهطٌ من أساتذة التاريخ على دراسات في الماجستير والدكتوراة حول صاحب المقعدة ودوره في حركة التاريخ، فما بالك لو استقرّت المقعدة وصاحبها على الكرسي عقوداً من الزمان.

هل فكر باحث واسع الخيال قليل الحياء يوماً في أن يجري دراسة حول دور المقعدة في صناعة القرار السياسي؟ ألا يقولون أن البحث العلمي لا سقف له فلماذا نضع له في هذه المنطقة فقط سقفاً بالغ الانخفاض؟ حين قرأت كتاب (موجز تاريخ الأرداف) الذي ألفه الصحفي الفرنسي جان لوك هينيج وخجل مترجمه إلى العربية من وضع اسمه على الكتاب، وجدته يذكر كل شيء تقريباً عن الأرداف إلا علاقتها بالسلطة وكراسيها، مع أن الإنترنت يقول إن هينيج عاش في مصر أربعة سنوات في السبعينات، عمل خلالها في جامعة القاهرة، مما يعني أنه بالضرورة أدرك مركزية المؤخرة في صناعة القرار السياسي، لكنه ربما لم يرد أن يفسد مزاج قارئه الرائق الذي سيفضل قراءة فصل طويل عن شهوانية غسيل الأرداف، على فصل قصير عن قتل المؤخرات لأحلام الشعوب.

لست مطلعاً على كافة الدراسات السابقة عن موضوع كهذا في البحث العلمي الغربي، لكنني قرأت ذات مرة عن دراسة علمية اكتشفت علاجاً فعالاً للإدمان هو الضرب على المقعدة، ويومها كتبت أتساءل: هل يصلح ذلك الأسلوب للعلاج من إدمان السلطة أو النفاق أم أنه مقتصر فقط على إدمان المخدرات، لعلي أترك الكتابة وأصبح أخصائي علاج طبيعي في الضرب على المقعدة، فأساهم ربما في تحرر الشعب من ربقة الاستبداد، وبالطبع لم يجبني أحد لأن أغلب قراء الصحف السيّارة يميلون إلى الشعور بكونهم أرقى بكثير من الإجابة على مثل تلك الأسئلة المنحطة.


طيب إذا كان السؤال الأول غير مشروع، فدعونا نستبدله بسؤال مشروع لا ريب فيه: لماذا لا يفكر أحد في أن يجري دراسة حول دور الكرسي في صناعة القرار السياسي؟ ألسنا نسأل دائماً الأدباء والكتاب الفائزين بجائزة نوبل للأدب عن طقوسهم في الكتابة، وهل يكتبون على المكتب أم على مائدة الطعام؟ وعن كراسيهم المفضلة في المنازل والمقاهي، ويبدو القراء دائماً شغوفين بمعرفة الإجابات، بينما لا تجدهم مهتمين بنفس القدر بالسؤال عن طبيعة الكرسي الذي ترستقت عليه المؤخرات، وصدرت من فوقه أبرز القرارات التي حرمت ملايين المواطنين من هناء الجلوس على كراسيهم دون ألم أو قلق أو غضب.

كنت قد كتبت قبل أعوام قصة سمعتها من مصادر موثوقة عن رئيس عربي منتخب كان أول ما فعله حين دخل إلى القصر الجمهوري، أن طلب تنجيد كراسي السفرة التي كان يجلس عليها الطاغية الذي سبقه، مع أنه كان يمكن أن يطلب تغيير الكراسي بأكملها، لكنه كان معجباً بشكلها، ولذلك طلب الاحتفاظ بـ "نفس خامة الكرسي"، ولا أظنه كان سيطلب ذلك لو لم يكن يدرك كمواطن أصيل أن تغيير الحشية التي يجلس عليها الحاكم أمر مهم في رمزيته للتأكيد على طبيعة التغيير السياسي الذي حدث في البلاد، ولا أدري هل تم تلبية طلبه أم تمت زحلقته؟ وهل لا تزال كراسي السفرة تلك بعد تنجيدها موجودة في نفس موقعها في قصر الرئاسة، أم أن المقعدات الجديدة فضلت عليها نوعاً آخر من الكراسي؟

بالذمة، ألن يكون ممتعاً أن نقرأ كتاباً يحمل عنوان (كراسي الحكم)، خصوصاً لو صدر في ورق فاخر مصقول، واحتوى صوراً لنماذج متنوعة من الكراسي التي جلس عليها حكام العالم وأصدروا من عليها أهم قراراتهم التاريخية، لنعرف هل تطابق كراسيهم تلك الصور النمطية التي نحتفظ بها في أذهاننا لكراسي الحكم المذهبة المبطنة بالجلد الفاخر الذي يكسو حشايا وثيرة لا تعرف أيدي عموم المنجدين إليها سبيلاً.

أرجوكم لا تحطوا من قدر الكتاب الذي أقترحه فتتعاملوا معه على أنه سيكون أشبه بعدد خاص من مجلات الديكور العبيطة من قال لكم أن ذلك الكتاب لن يدفع قارئه للتأمل في أسئلة عميقة المغزى يمكن أن تضيئ الكثير من كواليس صناعة القرار السياسي؟ أسئلة مصيرية من نوعية: هل يؤثر كون كرسي الحكم مريحاً أو وثيراً أو متقشفاً على طبيعة القرار السياسي؟ ألم نكن نشكو ونحن طلاب من أن كرسي الإمتحان لم يكن مريحاً، ولذلك لم نتمكن من أن نجيب على هذا السؤال أو ذاك؟ ألا تندلع الحساسيات العائلية داخل البيت الواحد من جراء رغبة البعض في احتلال هذا الكرسي أو ذاك، وجعله مكتوباً باسمهم، وتسميم عيشة الآخرين إن جلسوا عليه؟

ألا تختار ارتياد مقهى بعينه لأنك ترتاح إلى كراسيه الخشبية، بينما تنفر من مقهى آخر بسبب كراسيه البلاستيكية التي تتزحلق ما ظَلت عليها عاكفا؟ وبالتالي هل يمكن أن يرتاح الحاكم إلى كرسي حكم بعينه لأنه تعود على إصدار قراراته التاريخية من عليه؟ هل يتفاءل الحكام الذين يعيشون في بلاد لا تعرف الاستقرار السياسي بكرسي حكم معين وينفرون من آخر؟ هل ينقبض قلب الحاكم إذا قال له مسئولو الصيانة في قصر الحكم أن كرسي حكمه يحتاج إلى إصلاحات عاجلة؟ وبعيداً عن التغيير السياسي ألن يكون مهماً أو ممتعاً أن نعرف كم مرة تعرض كرسي الحكم للتغيير الفيزيقي في قصر هذا الحاكم أو ذاك؟

طيب، هل تخضع كراسي الحكم لتفتيش دوري من أجهزة المخابرات للاطمئنان إلى عدم وجود أجهزة تصنت أو كاميرات خفية مدسوسة في حشيتها أو ثناياها من قبل أجهزة مخابرات معادية أو صديقة ترغب في معرفة بواطن الأمور؟ هل يختار الحاكم في الدول التي تعرف تداول السلطة كرسي مكتبه الرئاسي مشترطاً ألا يكون قد جلس عليه أحد من قبل، أم أنه يأتي فيجده جاهزاً في انتظاره وإلى جواره يقف موظف مخضرم في القصر الرئاسي ليحكي له عن تاريخ المقعدات التي سبقته إلى الكرسي؟ أم أن السيدة الأولى هي التي تختاره له على ذوقها الخاص؟ وهل من حق الشعب في الديمقراطيات العتيدة أن يختار حرفياً كرسي الحكم الذي يجلس عليه حاكمه؟ وهل يأخذ الحاكم في البلاد الديمقراطية كرسي الحكم معه عندما يرحل عن الحكم بقرار انتخابي من شعبه؟ وهل يقول الكرسي لمقعدة الحاكم المستبد بعد عمر طويل: "إرحل يعني إمشي.. ياللي ما بتفهمشي"؟ وهل سنعيش حتى نشهد اليوم الذي يترك فيه الحاكم كرسيه طوعاً دون حاجة إلى مظاهرات وانقلابات ودبابات وشهداء وجرحى ودون أن نتمنى انتقاله السريع والأكيد من كرسي الحكم إلى كرسي الإعدام؟

قد تكون أسئلة ليس لها عازة في الواقع العملي، لكن آدينا سألناها قبل أن يحرُم السؤال.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.