ساقية جحا ومثالية البدايات

ساقية جحا ومثالية البدايات

10 فبراير 2020
+ الخط -
يصر البعض على أن تكون بداياتهم مثالية، بدايات مبهرة وأخاذة ومرموقة ووردية من اللحظة الأولى، أغلب هؤلاء يراوحون - مع الأسى والأسف - في أماكنهم ولا يقدّمون شيئًا، لا يختلفون في قليل أو كثير عن ساقية جحا! لعله حكم قاسٍ - وقد يرونه مجحفًا - لكنه حقيقة واقعة، وبطرفة عين سريعة يمكنك أن تستوثق من صدقه أو حتى تسيّده المشهد.

إن شاهدت أحمد أمين - الفنان ولا أقصد عميد كلية الآداب - ستدرك أن الأمر لا يحتمل التأجيل والتأخير، في البداية أراد أن يظهر بشكلٍ يرتضيه، ديكور مناسب وموقع تصوير - لوكيشن - يشدّ الجمهور، وإضاءة تسرق العيون وصوت يأسر المشاهد، وخدع ومؤثرات تليق بالمحتوى المكتوب. آمال عريضة نبحث عنها في كل ما نكتبه أو نمارسه، لكن "العين بصيرة والإيد قصيرة"، ما يضعنا في خانة "اليكّ".

إما أن ننطلق بإمكانياتنا المحدودة، وبمرور الوقت نطوّر من أدائنا ومعداتنا، ونفيد من أخطائنا تدريجيًا؛ فنصل إلى ما نصبو إليه أو نقترب من بلوغه، وإما أن ننتظر انفراجة لا نعلم تفاصيلها، تضعنا على أرضٍ ثابتة وتمدنا بكل ما نحتاجه من معدات ومهارات، وعندها نبدأ رحلتنا ونطل على جمهورنا؛ فنكسر الدنيا و"نعمل الصح" أو حتى "نعمل السليمة"!


إذا تابعت مشوار أحمد أمين، وكيف وازن بين الأمرين، ستجد أنه - وبعد ترددٍ - راهن على المحتوى، وبدأ تصوير برنامجه "اليوتيوبي" بعنوان "في 30 ثانية"، واستعمل كاميرا الموبايل في تصوير حلقات البرنامج؛ فأعجب الجمهور بمحتوى الحلقات، ومن ثم اتسعت الدائرة وظهر أحمد أمين بالشكل الذي يليق به، وقدم ثلاثة مواسم من "البلاتوه"، وانطلق بعدها بصورة كان يخطط لها مسبقًا، لكن ضيق ذات اليد لم يسمح بها آنفا.

قياسًا على تجربة أمين وكثيرين غيره، يحاول أناسٌ إعادة صناعة العجلة، لا ينشرون إنتاجهم ولا يواجهون جمهورهم، يكتبون إلا أنهم في ريبهم يترددون، يصوّرون حلقات هادفة ومطلوبة جماهيريًّا لكنهم غير راضين عن المونتاج والإخراج والرتوش الجانبية، باختصار يضعون أنفسهم على الرف ولأجل غير مسمى، ثم يعضون أصابع الندم لتصدّر آخرين - رغم خواء محتواهم - الساحة ومتابعة قطاع عريض من الجماهير لهذا العبث!

في سبقٍ تاريخي، وقف امرؤ القيس على الأطلال، واستوقف الأصحاب معه هناك، لكنه مضى في سبيله وواصل رحلته، بيد أن كثيرين يقفون عند نقطة البداية لا يبارحونها، يظنون أن الدنيا في انتظار إنتاجهم الإبداعي؛ فيباغتهم العمر وقد ولى وأدبر، وإذا هم لم يحركوا ساكنًا ولم يخطوا سطرًا، متذرعين بانتظار اللحظة المناسبة والوقت الموائم!

لا خلاف على أن الحركة أفضل من الجمود، وأن البدايات غالبًا ما تكون متواضعة، لا أقول دائمًا لأسباب سيأتي تفصيلها، وتواضع البدايات لم يمنع غوستاف فلوبير من التفوق، بل وفرض نفسه ضمن قائمة رواد الأدب العالمي، وأضحت رائعته "مدام بوفاري" رمزًا للإبداع الروائي، وانتقل إلى قائمة عبيد الكتابة ممن يولون اهتمامًا بليغًا بكل كلمة، يشطب كثيرًا ويعدّل كثيرًا ويضيف ويحذف، لكن ذلك جاء باكتسابه خبرة الإقدام، وبعد محاولات غير مؤثرة من الكتابة، ولو أنه انتظر حتى يتقن الأمر ويمسك بتلابيب الكتابة؛ فأغلب الظن أنه لم يكن ليواصل مشواره، ولترك ساحة الأدب وانتقل إلى ميدان آخر.

الحركة بركة، ومن لا يفعل شيئًا لا يُخطئ، ومن ثَمَّ فإنه لن يتعلم أو يتطور، أدرك ذلك ه. ج. ويلز في بداياته؛ فعمل في متجرٍ صغير مدة 14 ساعة يوميًا، وبعد وقتٍ انتقل للعمل مدرسًا، وتمكن من تأليف 70 كتابًا، وعلى شاكلته كان المبدعون والمثابرون وأصحاب الهمة العالية، لا يثنيهم عن متابعة طريقهم شيء، يشعرون بالإحباط واليأس والضيق، لكنه شعور مؤقت سرعان ما يزايلهم ليكملوا مسيرتهم. يعلمون أن المؤثرات البصرية والسميعة والزركشات تلعب دورها في النفوس، لكنهم يراهنون على الانطلاقة الأولى، وبتتابع الركض في المضمار يحصّلون خبرات ومساعدات تسهم في سد الفجوات، وتعينهم على تدارك الأخطاء وتحسين الأداء.

ليس في وسع أحد من دارسي النحو إلا أن يؤخذ بعلم سيبويه، وإن لم يقرأ كتابه الموسوم "الكتاب"، وقد جرى العرف بين أهل النحو أن يخلعوا على هذا الكتاب اسم "قرآن النحو"، ما يغلِّف شخصية صاحبه في الألباب والقلوب بالهيبة والوقار. لا ينتقص من هذه الهيبة أنه كان غلامًا عاديًا، جلس في حلقة حماد بن سلمة يطلب الحديث الشريف، وأنه أخطأ في النحو مرتين وردّه حماد، بل إن مكانته في النفس لتسمو حين تحدى نفسه، وساعة أصرّ على تعلُّم النحو حتى لا يُخطئ فيه. درجة أعلى من الإعجاب يستحقها سيبويه عندما ندرك أنه فارسي الأصل، وأن اللغة العربية بالنسبة إليه لغةٌ ثانية.

تواضع البدايات ليس إرهاصًا حتميًا بفشل الخواتيم، تبدأ حياتك - إن نسيت ذلك؛ فانظر إلى ابنك أو أخيك أو أيّ طفل من حولك - عاجزًا عن المشي منتصب القامة، تستند إلى شيءٍ ما وإن كان جمادًا، تسعد إن أخذ أحدهم بيدك، ثم بمرور الوقت يشتد عودك وتقف شامخًا بأنفك. ليس عيبًا أن تبدأ بإمكانياتٍ متواضعة، المهم أن تبدأ وألا تظل "محلك سر"؛ فكل من جمدوا في مواضعهم لم يقدموا لأنفسهم ولا لغيرهم شيئًا، واكتفوا باجترار فرصٍ أضاعوها، ولات حين ندم أو بكاء.

ربما تسأل: تريدني أن أبدأ وإن كانت مواردي محدودة وبضاعتي مزجاة؟ كيف أرسم الصورة الذهنية المثالية عن نفسي وأعمالي إذن؟ لم يفكر هنري فورد أول الأمر بالصورة الذهنية، فكر أولًا بالإنتاج المتقن وابتكر خطوط التجميع، وبعد سنوات دخلت فورد حلبة المنافسة الشرسة مع فيراري، وعززت صورة ذهنية قوية بمرور الوقت. ابدأ وإن كانت مواردك قليلة، لكن بالمثابرة ستضع قدمك على طريق الإتقان والتفرد، لا تشغل نفسك بالقيمة المضافة وأنت لم تبدأ بعد، ادخل الميدان وجد لنفسك موطئ قدم، ولا بأس أن تكون القيمة المضافة هاجسك، وأن تدرك أنها مرحلة متقدمة ستصلها بعد حين.

إذا واتتك الفرصة وساعدتك الظروف على البداية القوية؛ فبها ونعمت، ستختصر مسافات طويلة لا شك، أما لو لم تسعفك الأحوال فانطلق بأيّ شيءٍ يتاح لك، ولا تقيِّد نفسك مع التعهد الذاتي بتطوير أدائك بشكل تدريجي. إن كانت "الشاطرة تغزل برجل حمار"؛ فلا تراهن على تحسن الظروف، راهن على نفسك وبما تملكه الآن من مقدرات - بالقاف وإلا فالمستقبل مش ولا بد - وستجد نفسك بعد وقتٍ قد بلغت ما ترجوه وتصبو إليه.

آه لو أدركت أن الفنان العظيم كان يومًا ما مبتدئًا، وأن المقارنة بين حالك وأنت على أول السلم بحال من كدحوا سنينًا ليس في صالحك، "كم أنت في تقريب من لا يقترب"، فلتخزِ عين شيطانك ولتستعذ بالله من إبليسك، وشمِّر وتوكّل، واصحب الصبر والمثابرة في عملك، وتعلّم من أخطائك وشارك في ورش عمل ودورات تدريبية ومسابقات ما وسعك ذلك، واطرق الأبواب طرق موقن بالنُّجح، وخذها من فم محمد بن بشير الجارجي "أخلِق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا"؛ فاصبر تنل، ودُق الأبواب تلج ويسرك الجواب.

تعبك ومجهودك في أول الطريق يزيدان قدميك رسوخًا، يصقلان قدراتك لتواصل بنفس أطول وحرص أكبر، لن يخدعك بريق النجاح لأنك عانيت الأمرين. خذ نفسًا عميقًا وتذكر ما جرى لكثيرين، نجحوا منذ العمل الأول وقوبلوا بترحاب واسع، وأُمطِروا بثناء منقطع النظير، منهم من اغترّ بهذا النجاح السريع، ومنهم من زلت قدمه في متاهات نسفت تميزه، أنت تحفظ أسماء بعضهم في الرياضة والفن والأدب والصحافة والسياسة والحياة العامة، فلا تتأخر في انطلاق مشروعك، واستبشر خيرًا تجده.