ما بعد سقوط الكومبين (11)

ما بعد سقوط الكومبين (11)

09 يناير 2020
+ الخط -
لم تكن قلة الأصل و"الندالة" أمراً غريباً على كمال باشا وعائلته، بعد ما شهدناه منهم على مدى الأشهر التي لطعونا فيها على السطوح، لكنهم ربما عملاً بالمثل القائل "يا رايح كتّر من الفضايح"، أصروا على تسجيل رقم قياسي جديد في نكران الجميل، حين قرروا أن يتركوا لنا مفاتيح الشقة عند الحاجّة أم عادل، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تسليمها لنا يداً بيد، مصحوبة بكلمتين شكر وامتنان، حتى لو لم تكونا من القلب، أو حتى هزة رأس تحمل قدراً من العرفان.

كنا قد صحونا مبكراً في اليوم الموعود لاستعادة شقتنا، وقمنا بتنظيف غرفة السطوح وحزم أشيائنا بمساعدة عبد الحميد الأسواني ومحمود الصعيدي الذين تطوعا مشكورين لمساعدتنا في إنزالها إلى الشقة. ظللنا ننتظر لساعات أن يصعد إلينا كمال باشا ليطلب منا استلام الشقة مشكورين، أو حتى أن يرسل إلينا رسولاً يطلب منا النزول لاستلامها منه، وحين مللنا الانتظار، نزلنا إلى الشقة فوجدناها مغلقة، وحين طرقنا الباب ولم يُجبنا أحد، ظننا أن في الأمر ملعوباً جديداً من ملاعيب كمال باشا، وحين علا صوت تخبيطنا على الباب فأصبح ترزيعاً، سمعنا صوت الحاجّة أم عادل ينادي علينا من الأعلى، ليخبرنا أن حضرة الضابط الخلوق المحترم ترك مفاتيح الشقة لديها، لأنه كان بسلامته مضطراً لاصطحاب أسرته إلى شقة جديدة في أسرع وقت، ناسياً أنه لم يحصل على تلك الشقة إلا بفضلنا، أو بفضل تدخل الأستاذ عبد الحكيم لصالحنا، وحين أخذنا منها المفاتيح تأكدت جليطة البيه الضابط أكثر، حين وجدنا أنه لم يترك حتى المفاتيح في ظرف مصحوبة بأي ورقة تحمل أي سطور من الشكر والتقدير، بل ولم يترك حتى كلمة شكر شفهية طرف الحاجّة أم عادل التي لم تكن ستتردد في إبلاغنا، خاصة أنها كانت لطيفة معنا، حيث قامت من على كنبتها التي لا تحب أن تغادرها، لتسلمنا مفاتيح الشقة بنفسها، وهي تثني على جدعنتنا وشهامتنا النادرتين في ذلك الزمان، قبل أن تغير رأيها فينا بعد أسابيع، بعد أن سقط كومبين ابنتها على بلاط بلكونة مؤمن.

أثناء نزولنا من شقة الحاجّة أم عادل، متجهين صوب شقتنا التي طال الشوق إليها، قلت لمؤمن إنني بعد هذه الجليطة التي قوبل بها إحساننا، لا أستبعد أن نجد أرضية الشقة مغطاة بأكبر قدر من الخراء أو مكدسة بأكوام من الزبالة، أو بأي شكل أقل رمزية ووساخة من أشكال الانتقام منّا، لأننا أجبرنا أسرة كمال باشا على الإسراع بالخروج من الشقة. صحيح أن شقتنا لم تكن أمَلَة ليستقتل عليها أحد، لكنها تظل أفضل حالاً من الشقق المخصصة للمتضررين من الزلزال، والتي كنت قد قرأت في الصحف شكاوى عديدة من حالتها الرثة وعدم تشطيبها وكونها "محدوفة" في آخر الدنيا". لم يتفق مؤمن مع هاجسي، ونصحني بأن أتخلى عن ميلي إلى سوء الظن بالناس، وذكّرني بأنني سبق وأن أسأت الظن بجيراننا الأسوانيين في السطوح، قبل أن يصبحوا من أعز أصدقائي، مؤكداً أنه يتوقع أن نجد رسالة الشكر التي توقعناها ونستحقها، في انتظارنا في ركن ما من أركان الشقة، وبصحبتها حلة محشي كرنب وبعضاً من البُفتيك والفراخ البانيه، أو صينية مكرونة باشميل باللحمة المفرومة على الأقل، لأن الخير لا يمكن أن يضيع بين الناس، خاصة أننا لم نكتف بالتخلي عن راحتنا، من أجل ألا تبيت تلك الأسرة المنكوبة في العراء، بل ساعدنا على حل مشكلتها بشكل جذري.


بالطبع، لم نجد في الشقة رسالة شكر من أي نوع، ولم نجد فيها سوى حللها وصوانيها القديمة الموشكة على الصدأ، وهي خاوية على عروشها، لكننا أيضاً لم نجد أرضية الشقة مغطاة بأي نوع من الفضلات، بل وجدناها شديدة النظافة والترتيب، وهو ما اعتبره مؤمن بادرة طيبة تستحق الشكر، لكنني لم أكن متأكداً ما إذا كان قد تم تنظيف الشقة من أجل سواد عيوننا، أم أنها كانت نظيفة لأن هذا ما يكون عليه الحال، حين تسكن ثلاث نساء في شقة عزاب، فيضطررن لتنظيفها بعناية شديدة، لكي يصبح العيش فيها ممكناً، خاصة أن مطبخ الشقة وحمامها كانا حين تركناها في أسوأ حالة يمكن وصفها، بعد أن طبّ على الشقة قبلها بكذا يوم حشد من أقارب مؤمن، جاؤوا إلى القاهرة لحضور حفل زفاف، وباتوا في الشقة فعاثوا فيها فساداً.

لذلك، حين رأيت المجهود الكبير الذي بذلته أسرة الباشا الجلياط في تنظيف المطبخ والحمام، لم أجد بُدّاً من مطالبة مؤمن بمنتهى اللطف وبحرص شديد في اختيار ألفاظي، بأن يحرص على تنبيه من سيزوره من أهله وأقاربه، إلى ضرورة الحفاظ على الحمام والمطبخ بالتحديد، لأنهما مساحة مشتركة بيننا، ومن حقي أن أطالب بتنظيفهما، لم يتقبل مؤمن طلبي بهدوء كما كنت أتمنى، بل اعتبره تمادياً في تجريحه الذي سبق وأن بدأته في السطوح، لكنني أجّلت مهمة استرضائه وتوضيح موقفي إلى ما بعد الاطمئنان على مصير ما ظل من كتبي في الشقة، والاشتراك مع محمود وعبد الحميد في إنزال ما صعد منها إلى السطوح، وحين انتهيت من ذلك وذهبت لاسترضاء مؤمن، وجدته أهدأ بكثير، حتى أنه بادر إلى الاعتذار لي عن عصبيته في التعامل مع طلبي المشروع، ثم عاد لتذكيري بأن هبوط أهله وأقاربه عليه من البلد ليس أمراً باختياره، لكنه يعدني بأن يحرص على تنبيههم إلى الحرص على نظافة المطبخ والحمام والصالة أيضاً، مشترطاً علي ألا أوجه أي ملاحظة بخصوص ذلك إلى أي من أقاربه أياً كان ما يفعلونه، لأنني سأتسبب له بذلك في مشكلة أكبر مما يتخيل، فمثل هذه الأمور تؤخذ بحساسية بالغة لدى الصعايدة، وقد بدا لي أنه ظل برغم هدوئه متوتراً، لأنه لم يتقبل بشكل جيد ممازحتي له بالتشكيك فيما إذا كان أهل الفيوم صعايدة بالفعل، لأن الصعيد يبدأ من بني سويف في أكثر الأقوال تسامحاً، ويبدأ من أسيوط في أكثرها تشدداً.

لم يكن الوقت مناسباً لجرّ شكل مؤمن ببعض النكت والإفيهات عن أهل الفيوم وعلاقتهم الملتبسة بأهل الصعيد، والتي كنت قد سمعت بعضها من عبد الحميد الأسواني الذي لم تكن لديه خطوط حمراء في الضحك، لذلك لممت الدور فوراً، وأخذت أشكر له في الفيوم وأهلها وأؤكد انتماءهم للصعيد وناسه، وأذكره على سبيل التودد بأن جد أمي من ناحية الأب ينتمي إلى قنا، وجدها من ناحية الأم ينتمي إلى سوهاج، مما يعني أن الصعيد يخصني مثلما يخصه، ومع أنني لم أكن مقتنعاً بكل ما تعود الناس على نسبته إلى كافة المناطق من فضائل أو رذائل، وأرى في ذلك أمراً شديد التخلف، ولا ينبغي أن يخرج عن إطار المماحكات أو الرزالات المنضبطة، إلا أنني بذلت مجهوداً أكثر من اللازم فيما قلته، لأنني كنت راغباً بصدق في فتح صفحة جديدة مع مؤمن، لأزيل أي رواسب خلّفها موقفي البايخ معه في السطوح، خاصة أنني داخل على أيام دراسية عصيبة سيتحدد وفقاً لها مصير منحتي الدراسية، التي لم أكن مستعداً لتحمل عواقب انقطاعها، لو لم أتفوق في دراستي.

تجاوب مؤمن مع سعيي لتلطيف الأجواء بيننا، وقرر أن يقوم بعمل وليمة غداء، ندعو إليها محمود الصعيدي ووالده، وعبد الحميد الأسواني ومن معه، احتفالاً بعودتنا إلى الشقة، ولأن مؤمن برغم عمله لم يكن من محبي الطبخ، فقد قام بالاتفاق مع مدير الكافتيريا التي يعمل بها على إحضار بعض الأكل منها بسعر التكلفة: ثلاث فرخات مشوية وصينية مكرونة باشميل وبعض السلطات والمخللات، لكن الأكل الذي أحضره كان ماسخ الطعم، بشكل أحرجنا أمام الأستاذ عبد الحكيم الذي لم يكتم انتقاداته للأكل، بل أعلنها بصراحة مع كل قضمة، ليفتح باباً من التريقة شارك فيه الجميع، فتندّم مؤمن على أنه لم يقم بإحضار عدد من سندوتشات الشاورمة، لأنها الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتحمل مسئوليته في الكافتيريا، ليقول الأستاذ عبد الحكيم إن باب التوبة لا زال مفتوحاً أمام مؤمن، وأنه سينتظره في الغد ليتأكد من حسن ثقته بما يبيعه من شاورمة، وأنه على الأقل سيستمتع بأكل الشاورمة وهو جالس على كرسيه، بدلاً من اضطراره للأكل وهو واقف لأننا لم نكن نملك العدد الكافي من الكراسي لإجلاس الضيوف، وأمام تعليقات لاذعة كهذه لم يكن مؤمن وحده في "نُصّ هدومه"، بل كان محمود أيضاً في غاية الخجل من أداء أبيه، الذي انهال على الحاضرين بانتقاداته وأسئلته المحرجة، لكن ذلك كان أرحم من نكته وإفيهاته التي تنتمي إلى أرخص مدارس الكوميديا، ويمكن أن أستحضر لك منها نموذجاً وحيداً حرصاً عليك، "س: عارف إيه أكتر أغنية بتحبها الكلاب لأم كلثوم؟ ج: سعران لوحدي"، وهي "أملوحة" كان الأستاذ عبد الحكيم في غاية الحماس لها، لدرجة أنه رواها لكل من فاتهم الاستماع إليها، وأقسم أنها من بنات أفكاره، وأنه لم يسمعها من أحد، وهو ما كان يمكن تصديقه دون الحاجة إلى حِلفان.


كان أسوأ ما في عودتنا إلى شقتنا السليبة، أن الأستاذ عبد الحكيم دخل في حياتنا أكثر من اللازم، بوصفه الرجل الذي أنقذنا من برد السطوح وبهدلة الحياة فيه، بفضل علاقاته الحكومية القوية التي حلت موضوع الضابط اللعين وأسرته في لمح البصر، مع أن ذلك لم يكن صحيحاً كما اتضح فيما بعد. تخيلنا في البداية أن مسألة تذكير الأستاذ عبد الحكيم لنا بأفضاله، ستقتصر على الدقائق التي تجمعنا به، حين نلتقي في مدخل العمارة أو على بسطة السلم التي تفصل بين شقتينا أو في الشارع، حيث يبدأ بعد التحية والسلام، بالتساؤل عن أخبار الشقة معنا، وهل عادت حياتنا للاستقرار بعد أن عدنا إليها؟ وهل فرقت معي في المذاكرة ومع مؤمن في تركيزه في عمله؟ ومع أنها لم تكن شقة فندقية فاخرة لتستحق كل ذلك الرغي، إلا أننا كنا نقدر فعلاً عودتنا إليها، ولذلك كنا نشكره من أعماق قلوبنا، ونقوم في كل مرة باختيار دعاء جديد من "تشكيلة الأدعية" المناسبة للموقف، فيهز رأسه وهو يصطنع التواضع، قبل أن يعيد حديثه عن المجهود الذي بذله في الحرص على عودتنا إلى الشقة في أسرع وقت، رافضاً محاولات الضابط اللعين في التسويف والمماطلة.

بسبب تكرار ذلك الموقف وما يدور فيه من كلام معاد، ظننت وبعض الظن إثم مفهوم الأسباب، أن الأستاذ عبد الحكيم ربما كان يرغب في أن يحصل منا على مقابل مادي نظير ما قام به، وهو ما أغضب محمود حين فاتحته فيه متحرجاً، ليقول بعد أن استرضيته إن أباه "صحيح يعني فيه العِبَر"، لكن ليس إلى درجة أن يطلب مقابلاً عن خدمة قام بها، خصوصاً أنه لم يقم بها تطوعاً، بل قام بها غصباً عنه، لكي يستعيد إيقاع حياته، ويعود إلى أحضان زوجته وطفلتهما، ثم أقسم محمود أنه سيقاطعني لو قمت أنا أو مؤمن بشراء هدية للأب، حتى لو كانت هدية رمزية، لكنه في الوقت نفسه لم يمانع أن أقوم بتقديم تلك الهدية إلى أبلة عزيزة، حين أزورها في شبرا الخيمة، خاصة أنها ألحّت على محمود ورانيا أن يأتيا بي معهما في أقرب فرصة لأتعرف عليها وعلى أختهما الصغيرة وعلى أسرتها الكبيرة.

كان محمود يتحدث وهو يبلغني دعوة أبلة عزيزة، بلهجة من تجمعه مودة عميقة بزوجة أبيه، مع أن عمر مودتهما لم يتجاوز بضعة أسابيع، وهو ما لمسته أيضاً في حديث رانيا عنها، التي كانت بحكم صغر سنها أكثر اندفاعاً من أخيها، وكما كانت مندفعة من قبل في إعلان نفورها من أبلة عزيزة، إلى حد السخرية من سمارها ووزنها ومهنتها وسكنها في مساكن العمال بشبرا الخيمة، التي كانت رانيا ترى أنها ليست من مستوى عائلتها الجيزاوية العريقة والحافلة بالمستشارين ووكلاء الوزارة فضلاً عن رجال المخابرات، فقد اندفعت رانيا الآن في إعلان محبتها لأبلة عزيزة، التي أغدقت الكثير من المودة والحنان على رانيا، في وقت كانت تحتاجه بشدة، بعد ما جرى بينها وبين أبيها من مواجهة.

كانت أبلة عزيزة شديدة الذكاء، حين استخدمت الأزياء والملابس والماكياج كمدخل للتواصل الودود مع رانيا، فبعد أن انتهت مراسم الاعتذار الذي توجه به الأب لمحمود ورانيا في حضور أبلة عزيزة، حاولت رانيا أن تجامل أبلة عزيزة بعرض مساعدتها في تجهيز عزومة الصلح العامرة التي عقدتها في شقتها بشبرا الخيمة، لكن أبلة عزيزة قالت لها إن ذلك سيحدث طبعاً ولكن ليس في هذه المرة التي ستظل فيها ضيفة مدللة تُشال فوق الرؤوس، وأنهما سيتبادلان المواقع في المرة المقبلة، لتجلس هي في انتظار إعداد رانيا للغداء، وتستمتع بأكلها الجميل الذي لم تنس طعمه ونَفَسه الحلو منذ ذاقته أول مرة، ثم قامت في حركة مباغتة بالثناء على ماكياج رانيا وذوقها في اللبس، وطلبت منها في حركة "بناتي" شديدة اللطف أن تقوم بتضبيط ماكياجها بعد أن ينتهي الطعام والذي منه، لتنتهي الليلة بعودة محمود وأبيه إلى الجيزة، وبيات رانيا في حضن أختها الصغرى التي لم تتوقف رانيا عن تدليعها وهشتكتها طول الليل، وتصبح شقة أبلة عزيزة المقصد الدائم لرانيا، بدلاً من شقة خالتها التي في الجيزة، أو شقة خالتها التي في حلوان.

لم أفهم سر تلك الجاذبية الطاغية لأبلة عزيزة إلا حين رأيتها بنفسي، لم أكن ساعتها قد عرفت المذيعة الأمريكية السمراء أوبرا وينفري، التي كانت أبلة عزيزة شديدة الشبه بها شكلاً وروحاً وتختخة لطيفة، وقد ذكّرني حضورها الرائع وخفة ظلها وحفاوتها البالغة بوالدة صديقنا النوبي عمرو "فلنّكة" الذي كان سبباً في تعرفي على مؤمن زميله في نفس المدرسة، والتي شالتنا فوق رأسها، حين دخلنا شقتها الصغيرة في ناهيا، وجعلتني أشعر أنني واحد من أسرتها، مع أنني لم أكن قد قابلت ابنها إلا مرة واحدة، قبل أن أدخل بيته. لم تكن أبلة نوبية مثل أم عمرو، بل كانت من أسرة قناوية، وكانت أصغر بكثير في السن، مع أنها كانت لا تكف بأريحية عن التذكير بنعمة الله عليها لأنها تمكنت من إنجاب طفلتها، قبل أن تبلغ سن اليأس، وهي معلومة شخصية لم تكتف بإشراكي فيها في أول لقاء لي بها، بل حكت لي الكثير من تفاصيل حياتها، فأدركت أنها سيدة موهوبة في المودّة مثل أم عمرو، وأنها قادرة على أن تجعلك بعد ساعات من لقائها، تشعر بأنك صديق قديم لها، ليس بالزياط والمهيصة الفارغة التي تعطي للبشر انطباعات خاطئة عن طبيعة علاقاتهم، وإنما بفهم طبيعة الشخص الذي تتعرف عليه، عبر أسئلة ذكية توجهها إليه، أسئلة بسيطة جداً عما يحب أن يشربه أو يأكله، أو عن المواصلة التي ركبها للمجيئ إلى بيتها، لتتخذ من إجابته مدخلاً إلى حكاية لطيفة تعرفك عليها أكثر، دون أن تبدأ بالحديث كما هو مفترض عن السبب الذي جعلك تدخل بيتها، وهو في حالتي شكرها على ما قامت به تجاهي أنا ومؤمن، لكنها على عكس زوجها، لم تسمح لي بإكمال الكلام عن الموضوع، بل غيّرت دفة الحديث مباشرة، لتؤكد لي أنها طلبت من محمود ورانيا أن يأتيا بمؤمن أيضاً، ليشاركنا الغداء الذي أعدته لنا والذي كانت روائحه واعدة بكل خير، لكنها حين شعرت أن وجوده ربما يكون غير مريح لرانيا التي لم يسبق لها أن تعرفت عليه، قررت أن تؤجل اللقاء به إلى فرصة أخرى، لكنها طمأنتني أن نصيبه محفوظ من الغداء، وأنها سترسله معي ليعطيه فكرة عن طبيخها، وأنها متأكدة أنه حين يذوق العيّنة سيجدها بيّنة، وسيحرص على زيارتها، حتى لو لم يصطحبه أحد إليها، وبالطبع لم أقل لها إنني كنت سأكون غير مرتاح أكثر من رانيا، لو جاء مؤمن معنا، خصوصاً أن حالة السلام اللطيف التي سادت بيننا، انتهت بعد أن اندلعت بيننا خناقة عاصفة بعد أيام قليلة من عودتنا إلى الشقة، ومن التنبيه الودود الذي تخيلت أنه سيتعامل معه بجدية.

.....

نكمل الأسبوع المقبل بإذن الله

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.