محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (3)

محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (3)

07 يناير 2020
+ الخط -
التنظيرة الرابعة: مطالع خادعة
بعض الأغاني خسارة فيها مطالعها الحلوة. تسمع مطلعها من هنا، فتمني نفسك بسماع أغنية فريدة من نوعها، لكنها ترسى بعد قليل على فريدة الشوباشي.

يعني خذ عندك مثلا هذه الأغنية لعفاف راضي: "تعال أقولك أحلامي". وقعت عليها بالصدفة خلال سباحتي في بحور الساوند كلاود، فقلت لنفسي بعد سماع مطلعها: الله، يا سلام على الدخلة، ربما لم أسمع فكرة مثل هذه من قبل، حبيبة تحكي لحبيبها عن أحلامها، أحلامها به أو أحلامها بشكل عام؟ أياً كان، فكرة رائعة، يعني أم كلثوم قالت من قبل لحبيبها: "وأقولّك عاللي سهّرني.. وأقولّك عاللي بكّاني"، لكنها لم تأتِ بسيرة الأحلام، عبد الحليم حافظ من بعدها قال لشادية "تعالي أقولك"، ومن طريقة ردها العابثة "هتقول إيه؟"، فهمنا أنها تعرف ما الذي يريد أن يقوله، لكننا ربما يستحيل أن نسمعه لأسباب رقابية، لذلك لم نأخذ ما قيل في بقية الأغنية مأخذ الجد، واعتبرناه مجرد تمويه على ما ينبغي أن يقال حين تنفرد بحبيبتك في "لوكيشن خارجي نهار منعزل وهادئ".

تذكرت أيضاً أغنية ليلى مراد الرائعة "شفت منام وأنا احترت فيه"، لكنها لم تكن تحكي في الأغنية لحبيبها عن ما حلمت به، بل كانت تحكيه لمفسرين الأحلام بشكل عام، ولذلك اختار أنور وجدي خلال إخراجه لتلك الأغنية، أن يجعل ليلى تحكي أحلامها لحشد شعبي يتصدره يوسف بيه وهبي، ويضم لفيفاً من الراقصات والراقصين، مما جعل الفكرة كلها مجرد تكئة درامية لتمرير المعنى اللازم لمشاهد الفيلم أو مستمع الأغنية.


لذلك الفكرة في أغنية عفاف راضي أحلى، لأن حكي الأحلام سيكون موجهاً للحبيب دون غيره، ولذلك تقول له عفاف راضي: "إنت اللي تقدر تفهمني"، ثم تعود للتأكيد أكثر فتضيف: "انت الوحيد"، وهو ما يرفع درجة مصداقية الأغنية، فما نراه من أحلام تتعلق بالحب والحبيب، يصعب في الغالب أن نحكيه إلا لمن يفهمنا، وفي الغالب يكون العثور على من يفهمنا أمراً صعباً، ولذلك لا نجد سوى شخص وحيد يفهمنا، وغالباً يكون مضطراً لفهمنا أو للإدعاء أنه يفهمنا.

في الأحلام المرتبطة بالحب لا نبحث عن مفسر أحلام بارع مثل العلامة ابن سيرين لكي يقول لنا أن الفئران الكثيرة في المنام رزق أو أن أكل قشر البيض يعني نبش القبور، بل نبحث عن العلامة ابن فرويد لكي يفسر لنا لماذا نرى خالة المحبوب تجلدنا بالكرباج وهي ترتدي بدلة جلدية حمراء، ولماذا نرى والدها وهو يرتدي قناعاً شيطانياً وهو يمسك بـ "ديلدو" بني متوسط الحجم تخرج منه أشواك سوداء.

بالطبع لسنا منفصلين عن الواقع للدرجة التي تجعلنا نتصور أن أي مطربة في بلادنا ـ فما بالك لو كانت عفاف راضي مطربة الطفولة العفيفة والأحاسيس البريئة ـ يمكن أن تتهور لتحكي على الملأ عن أحد أحلامها الجريئة، ولو في قالب غنائي، لأنها بالتأكيد ستتعوّر، من الرقابة والأزهر والكنيسة ومجلس الشعب ومجلس الشورى والمجالس القومية المتخصصة والمجلس القومي للمرأة والمجلس القومي للطفولة والأمومة وجموع المواطنين الشرفاء ملتهبي المشاعر والعواطف والقيم النبيلة.

لكننا في الوقت نفسه، ننتظر من مطربة تبنّت مثل هذا المطلع أن تحوم حول حمى الفكرة، وهي توشك أن تقع فيه، وأن تحث شاعر أغنيتها على أن يرفع درجة الجرأة في حكي الحلم، عما سبق أن غنته ليلى مراد لمفسري الأحلام، لكن عفاف راضي وشاعرها الذي لم أصادف اسمه على الإنترنت يسارعان في خذلاننا، حين تأخذ الأغنية على الفور منحى آخر تقول فيه عفاف لحبيبها: " انت اللي تقدر تفهمني انت الوحيد.. معاك باسابق أيامي.. وأغني أجمل ما باغني.. لكون بعيد"، فيتضح لنا أنها تحلم بالتواصل مع أكوان أخرى، والغناء للفضاء الخارجي، وهو حلم غريب ومشروع، من مطربة ظلت وقتاً طويلاً تشعر بالخذلان لأنه لم يتم تقديرها كما يجب، برغم الفرمان الذي صدر من جمال عبد الناصر بالاهتمام بها، لكن ذلك الحلم لم يكن يستحق تلك الدخلة المشوقة، التي وعدتنا بما هو أهم من المطالب الفئوية.

تزداد الأمور سوءاً حين تكتظ الأغنية بتعبيرات غنائية زهقت روحها من فرط التكرار مثل "معاك باسابق أيامي"، أو "محتاجة صدقني لمرة.. أنسى الأحاسيس المرّة"، وهو ما كان يمكن أن نتسامح معه، لو قدمت لنا الأغنية ما وعد بها مطلعها، فأشركتنا في حلم واحد عليه الطلا من الأحلام التي حكتها لحبيبها، خاصة أننا لا ننتظر الاستما إلى أحلام عارمة أو جامحة، أو يعني كنا ننتظر، ما المشكلة؟ لكن ما حدث في النهاية أن الأغنية انتهت بدون الإشارة إلى أي حلم، سوى حلم الغناء للأكوان البعيدة، وهو حلم سبق إليه مدحت صالح بشكل أكثر جرأة في حنينه إلى "كوكب تاني"، قبل أن تدور عليه الأيام ويتمنى بجد أن يعيش في كوكب تاني، لا يضطر فيه للدخول في مشاكل قضائية مع فيفي عبده، ولا يسأله فيه الصحفيون عن سر زيجاته المتكررة، ولا يفضل فيه المستمعون الاستماع إلى أدائه لأغاني غيره القديمة، بدلاً من الاستماع إلى أحدث أغانيه.

فجأة تصنع عفاف راضي للأغنية القصيرة قفلة شديدة الغرابة، تقول فيها: "إحنا اللي جمعتنا الصدفة.. من أرض باينة ومختلفة.. عمري معاك ما أكون خايفة.. تعال أقولك أحلامي"، فتثير لدينا الكثير من التساؤلات عن طبيعة الصدفة التي جمعتها بحبيبها، وعن الظروف القاسية التي دفعت الشاعر لاستخدام كلمة "باينة" من أجل ضبط الوزن، وعن أبي أم السبب الذي يجعلها تنهي الأغنية، دون أن تحكي حلماً يشوبه قدر من الجرأة لحبيبها، مع أنها كما قالت لا تخاف منه أبداً، فنستنتج أن ذلك ربما حدث بعد الانتهاء من تسجيل الأغنية، التي لم تقدم جديداً سوى مطلعها، الذي لا زال فكرة جميلة تبحث عن مطربة أكثر شجاعة، وأقل تقليدية في فهمها لمعنى العفاف الغنائي.

التنظيرة الخامسة: ألفاظ ومعانٍ
لم يكن الإنترنت قد ظهر وقتها، ولم نكن قد وجدنا طريقنا إلى الكتب التي تنشر كلمات أغاني فيروز، مع أن كتب كلمات أغاني أم كلثوم وعبد الحليم وفريد ووردة تملأ الأرصفة، ولم يكن لدينا أصدقاء لبنانيون نسألهم عن التعبيرات التي لا نفهمها، ومع ذلك كان بعضنا يتسابق على استعراض قدراته في حفظ كلمات أغاني فيروز عن ظهر قلب وغنائها في السهرات والقعدات، كنت من بين تلك القلة المندسة، لكنني كنت أفضل التزام الحذر، فأختار أداء الأغاني الأوضح في معانيها، يعني "راجعين يا هوى، دارة دوري فينا، نسّم علينا الهوى"، لكي أتجنب ألسنة الأصدقاء الذين ليس لهم في فيروز، والذين كانت تعبيرات لبنانية ملتبسة مثل "نطرتك حبيبي ـ اشلحني على ترابات ضيعتنا ـ مشلوحة على بحر النسيان ـ نطرونا كتير ـ شِلحُ زنبقٍ أنا"، تثير رغبتهم السافلة في التأليس، واتضح أني كنت محقاً في التزام الحذر لأنه جنّبني من الوقوع في خطأ صديق أوقعه الحماس في شر أعماله، حين رفع عقيرته بالغناء ذات سهرة مبدلاً بفعل الحماس في حروف الكلمات وصادحاً: "خِدني ارزعني في أرض لبنان".

التنظيرة السادسة: بعد الحفلة
الأمور ليست دائما كما نتخيلها حتى وإن بدا تخيلنا لها شديد المنطقية. هل تريد أن تقنعني أن أي عازف قدير في فرقة سيدة الغناء العربي أم كلثوم كان يعود إلى بيته من بروفات أغنية "سلوا كئوس الطلا" أو "أراك عصي الدمع"، ليجمع زوجته وأولاده ويعقد معهم حلقة نقاشية لتحليل جماليات القصيدة التي كان يتدرب عليها، بالتأكيد كانت أول جملة يقولها عند دخوله البيت "الغدا جاهز"، وربما كانت ثاني جملة يقولها "برضه عاملة بامية"، وبالتأكيد إذا قام أحد أولاده بتشغيل الراديو بصوت عال أثناء دخوله ليرتاح سيصرخ فيهم "اطفوا الزفت ده أنا دماغي واجعاني من الخبط والرزع طول اليوم"، حتى لو كان من يغني في الراديو عبد الوهاب أو أم كلثوم ذات نفسها، وحتما لزما زوجة هذا العازف إذا رأته نائما مثل "الخسّاية الدبلانة" وشخيره يهز ضرفة الدولاب لن تعذر هجره المتكرر لها لأنه يشارك في صناعة تاريخ الغناء العربي، بل ربما كانت في تلك اللحظة بالذات تقول لنفسها "الله يقطع فرقة أم كلثوم على بروفات أم كلثوم.. الراجل بقى له تلات أسابيع مالمسنيش ولو بالغلط".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.