هزليات السياسة الأسدية (16)

هزليات السياسة الأسدية (16)

04 يناير 2020
+ الخط -
انتهى أبو أيمن، بطلُ الحكاية التي رواها لنا الأستاذ كمال في سهرة الإمتاع والمؤانسة، نهايةً تراجيدية. 

لتلخيص الحكاية قال كمال إنّ فرع المخابرات الذي سبق أن اعتقله بتهمة الإحجام عن الإدلاء بصوته لحافظ الأسد في الاستفتاء (وصنفه في خانة الحيادي السلبي)، تَلَقَّى، في أحد أيام الثمانينات، تقريراً يفيد بأنّ بيتاً مهجوراً في إحدى ضواحي المدينة تعيشُ فيه مجموعةٌ مسلحة تنتمي إلى "الإخوان المسلمين"، أو الطليعة المقاتلة، ولكي يتأكدَ الفرعُ من صحة المعلومة الواردة في التقرير، أرسلَ ثلاثةً من عناصره إلى أبي أيمن، متنكرين بصفة إخوة أشقاء.. وعرضوا عليه فكرة شراكة تجارية، تتلخص في أن يقوم أبو أيمن بهدم البيت الذي ورثوه عن المرحوم والدهم، ثم إعماره، لقاء مال كثير، ولأجل المصداقية والاطمئنان دفعوا له مبلغاً جيداً، بصفة سلفة على الحساب، وحينما ذهبَ المسكين إلى البيت، متتبعاً العنوانَ الذي زودوه به، كانت مجموعة من قوات المداهمة تتعقبه، حتى إذا ما دخل البيت المهجور فوجئ به المقاتلون المختبئون في داخله، وعرفوا أنهم وقعوا في كمين، فلقموا البواريد، واشتبكوا مع القوة المداهمة ووقع قتلى من الطرفين، وذهب أبو أيمن -كما يقولون في الكلام الدارج- فَرْق عملة. 

قامت أم أيمن، وأبناؤها وبناتُها، بما يلزم للدفن وإقامة الصلوات والأدعية وقراءة الموالد، ونصبوا سرادق العزاء أمام باب المنزل، وكان أبناء أبي أيمن يطلبون من المعزين أن يزيلوا علامات الحزن والتقطيب عن وجوههم، لأن أباهم المرحوم كان يمقت الحزنَ وقَلْبَ الوجه والبوزمة، ويهرب من المجاملات التي تنطوي على نفاق، وله سالفة شهيرة يقول فيها إن الحزن على الميت في بلادنا، وبالأخص في حلب، مَرْكَزُهُ المَعِدَة، وبناء عليه فإن إسكات الحزن يتطلب أن توضع في معدة الإنسان الحزين أشياء ثقيلة، من قبيل عش البلبل المصنوع من اللحم واللبن ودبس الرمان والصنوبر المقلي بالسمن العربي، إضافة إلى اللحم بعجين والكبب المحشوة باللحم والدهن والبصل، واللوز المحمص بالسمن، ويجب أن تُكْبَسَ معدة الإنسان الحزين، فوق هذا كله، بما لا يقل عن ليتر من اللبن الخاثر المذاب (العيران) المُطَعَّم بقليل من الثوم، وبعد أن يأكل المعزي ما لا يحسب الحاسب من هذه الأطعمة الدسمة، يجدر به أن يُتْحِفَ معدته بقرصين من الشعيبيات، أو الكنافة أم النارين التي تسبح بالقطر العَمَلي، أو البقلاوة والبلورية والمبرومة والـ كول وشكور، ولا بأس بعدها من تناول جرعة أو جرعتين من القهوة العربية، وكأسين من الشاي الديري الثقيل، وعندما تنفضُّ التعزية ويذهب المعزي إلى البيت، تراه يمشي متثاقلاً من فرط ما تناول من الطعام الدسم، وإذا وضع رأسه على المخدة فهو ينام بلمح البصر، وعندما تبدأ نتائج هذا الطعام كله بالخروج من الجسم على هيئة أصوات قريبة من أصوات المدفعية، توقظه زوجته وتسأله: أيش بك؟ أيش صاير معك؟ فيقول لها: بعيد عنك حزنان على الميت فلان الله يرحمه!..  

ويضحك الموجودون لدى سماعهم هذه السالفة، ويسترسل أولادُ أبي أيمن بسرد الفصول المضحكة التي كان يؤلفها والدهم المرحوم، وبالأخص مماحكاته مع زوجته ومع عماله، ويحكون عن تعليقاته الذكية اللاذعة، فتنفتح شهيةُ المعزين على التنكيت، دواليك حتى تحولت أيام العزاء الثلاثة -كما حكت أم أيمن للأستاذ كمال- إلى ما يشبه المسرح الكوميدي، وقالت له، إنها، رغم الحزن والألم، بقيت منشرحة، لأن هذا الذي حصل أثناء التعزية جزء من فلسفة أبي أيمن رحمه الله في الحياة التي كان يلخصها بعبارة (الدنيا مضيانة- وساعة السرور لا تُفَوَّتْ)، وقد كان له تعليق آخر يقول: مهما يكن الإنسان غالياً على قلوب أفراد أسرته، فإنهم يذهبون إلى المقبرة، ويلقون جثته تحت التراب، ويعودون بسرعة البرق إلى حيث ينتظرهم عش البلبل والكنافة أم النارين والقهوة المرة والشاي الديري الثقيل.

قال أبو إبراهيم: بتعرفْ يا أستاذْ كمالْ؟ أنا كنتْ مفكر إنه أم أيمنْ راحْ تزعلْ على زوجها كتير. شايف أنها قلبت الجو مرح وكوميديا.

قال كمال: هيي في الحقيقة زعلتْ كتيرْ، وكل محاولاتْها بأنها تنسى وتصبر وتعيش حياتها طبيعية بائِتْ بالفشل، وبحسب ما حكت لي إنها لما كانت تحط راسها ع المخدة لتنام، كانت تتذكر شلون المخابرات اعتقلوا "أبو أيمن" لأنه نسي ما يروح ع مركز الاستفتاء ويكتب "نعم" لحافييظ.. وصارت تشوفه بأحلام اليقظة وهوي داخل على مركز الاستفتاء وعم يصيح: زكاة العافية يا شباب، طبوا لنا كَمْ صوتْ لهالقائد الرمز في الصندوق.. ومرة تشوفه عم يبعج إصبعه بالدبوس متل الرفاق الشبيبيين وبيكتب نعم للقائد، وشافته مرة وهوي شايل صورة حافييظ وداخل ع المركز تبع الاستفتاء وعم يقول: أنا بدي هادا رئيس.. لا حدا يحاول يقنعني بغيره، ترى أنا عقلي يابسْ. ومرة شافته عم يقول لرئيس المركز: ولاك يا مجنون، في حدا بيكون عنده هيك رئيس وبيفكر يجيب غيره؟ لك إشُّو هالجنونْ هاد؟! 

قال أبو زاهر: طول بالك أستاذ كمال، هاي لولا شوي بدها تساوي زوجها الله يرحمه منحبكجي.

قال كمال: الله يرحمه أبو أيمن، كان إنسان محترم، ومستحيل يصير منحبكجي حاشا السامعين.. بس المسكينة أم أيمن سيطرتْ عليها هالهواجس من كتر ما انقهرت عليه. 

أي نعم.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...