الرَّقَّة... المدينة الضحية

الرَّقَّة... المدينة الضحية

02 فبراير 2020
+ الخط -
هكذا، وبكل ببساطة، تحوّل حال وضع أهلنا في سورية إلى ما هو عليه اليوم، بعد أن كان العالم برّمته يشهد على أن المواطن السوري، وحتى السذّج منهم، يتفوقون بداهةً على كل من له علاقة بأي مجرم تطاول على أهلنا هناك، أو ادعى الحفاظ على هويتهم وغير ذلك من بين هؤلاء الذي يتغنّون بالأصالة والعفّة والشيمة العربية.

أليس من الأجد أن نقف وبكل احترام، إلى جانب كل مواطن سوري ظل متشبّثاً بأرضه، صابراً، تحمّل وعلى مضض، ألوانا من صنوف العذاب والحاجة، لاعناً الحال التي يعيشها، لأنها جَلبت عليه المواجع، وأضرمت في وجدانه وكيانه نار الشوق للكثير من أبنائه الذين هاجروا، وولّوا هاربين إلى بلاد الاغتراب، بسبب الضنك والحاجة والخراب والدمار الذي حلّ بمدنهم وقراهم، والألم الذي رسم لهم الطريق.
طريق الهجر والبعد الذي أوجعهم، وألزمهم بكل هذه المحطّات التي أدمت قلوبهم، وأحبطت رغباتهم وعزائمهم وأحلامهم، وقلّبت مواجعهم، وأحالت حياتهم الآمنة إلى سوداوية بغيضة.
صور فيها الكثير من ألوان الحزن، وأضفت على حياتنا نحن السوريين، فيضا من اللعنات على كل من حوّل كل بيت من بيوت السوريين إلى مزيد من الأحزان والمآسي، وألبس أهلها ثياب الفراق والموت الزؤام، ولم يعد بالإمكان العودة بها إلى ما كانت عليه، فقد تحوّل كل ما هو جميل في حياة أهلها إلى مقت، وألم وحرمان وأوجاع مؤلمة.
وبعد كل هذا يمكن القول: لماذا واجهت مدينة الرّقَّة المصير المؤسي بكل هذه الصفاقة والحقد الأعمى؟ لماذا واجهت آلة التدمير والخراب، وهي المدينة الأكثر أماناً ودفئاً؟
وهكذا كانت مدينة الرّقَّة، التي ظلّت ولفترة بعيدة من الزمن، يعيشُ أهلها في أمان واستقرار وتواصل وتوادد وتراحم وتعاطف، بعيداً عن الحرمان والعطش الذي أصاب أهلها في مقتل، ناهيك بانقطاع التيار الكهربائي المستمر، حتى وصل في فترات إلى ساعات طويلة خانقة، ولحقها لأيام في ظل شتاء قاسٍ، وهطول أمطار تُبشر بحياة أكثر دفئاً، وبموسم زراعي نأمل أن يكون طموحاً، وينعكس إيجاباً على أخوتنا الفلاحين الذين عاشوا مرارة الواقع، وتحمّلوا على مضض جرعات الاحتقان التي أصابتهم في الصميم.

ناهيك بإضافة أخرى حاولوا أن يخضعوهم لها، وهم لا حول لهم ولا قوة، بقطع الاتصالات الجوالة، وإيقاف كل ما يتعلّق بشبكات التواصل الاجتماعي، وتراخيص المحال القائمة المشروطة بقوالب خشبية قاسية، وهي آخر حلم كان يربطهم بأبنائهم المهجّرين الذين فرّوا من فزعهم ورهابهم، ومعاملتهم الخشنة، وفرض الاشتراطات العقيمة، التي إن دلّت على شيء فإنما تدل على الحيّز الضيّق الذي يفكرون به، والمنطق غير العادي الذي يتحلّون، والجهل الأعمى الذي يعيشونه ويتشبثون فيه، وهم فوق ذلك، حاولوا إلصاقهم بالبقاء بمدينتهم، مغلقين أمام أبنائها كل الطرق المؤدية إلى الهرب، مجبرين بالبقاء على الرغم من الفقر المدقع الذي حلّ بهم، وغياب العمل، والحاجة إلى المادة، والكثير من متطلبات الحياة العامة. إنهم صاروا مقيّدين برغباتهم التي لم يعد أبناؤها قادرين على تحمّلها ولو كان من رجالها الذين هم أكبر من كل التحديات، فكيف بالشباب، الناشئة، الجيل الذي فوجئ بكل هذه الصور المؤسية البغيضة التي أخرجتهم من غفوتهم، ما اضطرهم إلى الهرب لاجئين إلى أي طريق يمكن أن يحتضنهم، مهما كانت وحشته وصعوبته، ودفع الغالي والنفيس في الوصول إليه.
المطر، البرد، والخوف من الحاضر، ثلاثية عاشها ابن الرَّقّة وما زال يعيشها، وإلى اليوم.
ابن الرّقّة، الإنسان البسيط، المتواضع، الطيّب في مقامه، وفي ترحاله، واللطيف في معشره، الكريم في بيته، الرحيم في خلقه، الشهم في إقدامه، والمتشبّث بأصالته.
الرّقّة وابنها سيّان، تربطهما علاقة واحدة، ومن غير المجدِي أن نقارن بينهما، لأنهما يعودان لأصل واحد، وروح واحدة، ومبدأ واحد، لا يمكن أن يتغيّرا.
الرّقّة، وتاريخها، وما تحفظه كنوزها الأثرية من روائع خالدة، ستظل شامخة، راسخة في جذور أرضها الطيبة المعطاء. وابنها الذي ما زال يحمل طبائع البداوة، نصف الحضرية، كما يشير ذلك، كاتبها ومخلّدها في أعماله، الدكتور عبد السلام العجيلي، طيّب الله ثراه، في إحدى مقالاته، كما ويختلف بطبعه، وعاداته، وحتى بلهجته العامية، عن بقية أهله في سورية.
فالرّقّة وأهلها لم يحملا يوماً ضغينة، أو حقداً على أحد، بل كانا دائماً محبين للخير والوفاء، والعطاء لكل من يمد لها يده.
وما أحداث الرّقّة وما أصابها، إلاّ وَخَزات قاسية، وأيّ وخزات لحقت بها أريد لها أن تلبس ثوب الحزن على أبنائها، وتناجي القدر بأن يَلطف بها وبعباده.. وأن تعيد النفوس مطمئنة إلى بارئها بعد أن أعياها اليأس وآلمتها صور الضحايا الذين فُقدوا جراء الحرب المدمّرة التي أتت على كل شيء، وفتح في خاصرتها جرحاً عميقاً من الصعب أن يندمل، وإن تعافت منه يوماً، فلن ينسى أهلها ما أصابهم.
فالإصابة كانت قاصمة، وحطّمت الأفئدة، وأدمعت العيون، ما اضطر ابنها إلى أن يستل خنجراً وعصا، وبارودة وأراد، على الأقل، أن يحمي نفسه من هذا البركان الهائج، الذي بدت حِممه تنذر بالمزيد من الدمار واللوعة والتشرد والفقر.
فلماذا الرّقّة حدث فيها كل هذا الخراب والدمار الذي ألهب المشاعر، وأحرق الأفئدة، ما دام أنها المدينة المسالمة، الضحية؟

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.