صديقي المحتال

صديقي المحتال

03 يناير 2020
+ الخط -
كانت تربطني علاقة ودّ حقيقية مع صديق يكاد يكون أنموذجاً متفرداً في كل شيء. صديق أكثر ما كان يطمح إليه هو السفر والاغتراب بعيداً خارج عش الزوجية، مفارقاً أطفاله الصغار بسبب جشعه المادي وحبّه الأعمى للمال، لا سيما أنه يعيش في بحبوحة من العيش الرغيد، بل أكثر من ذلك، في بيت يضمّه مع والدته الطاعنة في السنّ، ويسكن إلى جانبه في بيته البسيط أخوه وزوجته وأطفاله.. ويملك ما يكفيه من رزق يجعله قادراً على التحرّك يمنةً ويسرة وبدون وجل.


إنسان مقتدر مادياً على مصاعب الحياة، ويشغل حرفةً تدرّ عليه ذهباً، وهي حرفة الحلاقة التي يُتقنها بحرفية عالية وأكثر من ذلك، كان قد تعلّمها منذ الصغر ويجيد فنّها، ومتفرّد بها قياساً بالحلاّقين الآخرين زملاء المهنة الذين يُجاورونه في المكان الذي يشغله.


الحلاق ياسر، وهذا هو اسمه، كثيراً ما كان يُفكّر في السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، كان يعشقها إلى حد الجنون، لا سيما أن أحد أصدقائه قد سبقه إلى ذلك المكان ومكث فيها مطولاً، فضلاً عن بعض المعارف الذين كانوا يزورونه في محله الصغير، وهو ليس بحاجة للمال، وقادر على أن يدفع بكل ما لديه للحصول على تأشيرة السفر إلى بلاد العم سام لكسب المزيد من المال، فقرر السفر إليها وطلب مساعدة صديقه في طرق هذا الباب الذي كان يرى فيه الكثير من الصعوبة لجهة تحقيقه.
وكان ياسر، وهو الصديق المثالي الذي طالما كنت أحبّه وأحترمه وأوده وأتشوق لرؤيته بصورةٍ دائمة، والسبب في ذلك لباقته وحسن تصرفه، وهدوئه ورزانته، وتعامله بلطف مع جميع زبائنه الذين يفدون إليه للفوز بقصّة شعر بواسطة مقصّه الذهبي الذي يُبدع في استعماله، وكان يدير محلاً متواضعاً ويقع في شارع رئيسي ومهم في المدينة التي يقيم فيها، وفوق ذلك فإنّه بنباهته وحرفيته وصنعته التي يتقنها إلى حد بعيد، عرف كيف يجلب إليه الزبائن ويكسبهم، ويرضيهم بفنّه، وترى محلّه يغصّ بالزبائن وأغلبهم من الشباب، جيل الناشئة، وغيرهم ممن يفضلون حلاقته عن غيره من الحلاقين الذين يفيضون عن الحاجة في المكان الذي يشغله، فضلاً عن أسلوبه، وحديثه المنمّق واهتمامه بصنعته جعلت منه الحلاق رقم واحد بالنسبة إلى ممتهني هذه الحرفة التي يتسابق الأغلبية عليها، ولكن هيهات!
كانت زياراتي إلى الحلاق ياسر، صديقي المحبّب بالنسبة لي، والذي عاشرته لأكثر من عامين من خلال التردد على محله، وكان حلاقي الوحيد الذي ظللت أتردد عليه لسنوات قبل تعلّقي به، وربطتنا مع بعض علاقة ود ممزوجة بالاحترام والثقة، والزيارات الأسرية المتبادلة التي لم تكبّلها، أو توقف تقدمها واستمراريتها أي قيود ..
كنتُ بصورةٍ مستمرة أزوره في محلّه الذي نقضي فيه ساعات بحضور بعض الأصدقاء، والنظر إلى لمسات يديه السحرية التي كان يذهل الجميع في كيفية قصّه شعر الزبائن الذين يتقاطرون عليه بصورةٍ مستمرة..
رغبة صديقي الحلاق ياسر في السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، وتركه المحل الذي يدر عليه ذهباً هو ما يتطلع إليه، لا سيما أنَّ مهنة الحلاقة في تلك البلاد الذهبية تدرّ دخلاً مضاعفاً. وبعد أيام قلائل كنت وياسر رتبنا كل الأوراق والمستندات والوثائق المطلوبة ليتوجه بمفرده للسفر إلى دمشق وعرضها على موظف السفارة الذي يعود إليه البت من عدمه في تأشيرة السفر، بعد أن حجز دوراً في وقت لاحق قبل سفره للمرة الثانية إلى العاصمة ليلقي بالأوراق التي بين يديه أمام القنصل، ومعرفة النتيجة بصورةٍ مباشرة على ضوء المقابلة المباشرة.

ودّعنا ياسر في سفره للمرة الثانية إلى دمشق، وحمل معه جميع الوثائق والمستندات المطلوبة، وبعد وصوله العاصمة توجّه إلى مقر السفارة الأميركية، ودخل إلى بهوها وبعد انتظار استمر حوالي ثلاث ساعات، كان ياسر اتصل بي من دمشق يعلمني حصوله على الموافقة بمنحه التأشيرة، وهو بانتظار الموافقة الأمنية التي تلي المقابلة الشخصية.
وقبل سفره إلى دمشق وإجراء المقابلة في السفارة الأميركية، ساعدته في تأمين أغلب الوثائق المطلوبة، وهيأت له الطريق الذي يمكن أن يوصله إلى الهدف وينجح فيه، ويفوز بالتأشيرة، وهذا ما حدث. وبعد انتظار أيام اتصل أحد العاملين في السفارة يُعلمه ضرورة حضوره إلى مقر السفارة لاستلام التأشيرة.
لم يصدق ياسر الحلاّق ذلك.. فالفترة التي تقدم بأوراقه إلى السفارة وحصوله على التأشيرة لم تدم أكثر من عشرة أيام بالضبط..!!
بعد أيام من حصول صديقي الحلاق على التأشيرة تجهزنا للسفر سويةً بعد أن حجزنا تذكرتي السفر، واختيار خط الرحلة على خطوط الشركة الإيطالية الذي يبدأ من دمشق ـــ روما، روما ـــ شيكاغو، شيكاغو ـــ لويزيانا.. وبعد وصولنا أرض الولايات المتحدة الأميركية استقبلنا في مطار مدينة أورلينز الصديق أبو محمد الذي استقبلنا في بيته العامر وقام بواجب الضيافة، وفي اليوم التالي بدأنا عملنا في محل تجاري يعود له، واستمر ذلك لثلاثة أشهر، وانتقل زميلي ياسر بعدها للعمل في محل حلاقة لصاحبه شاب عربي صار له في المدينة سنوات، تعرّف إليه ورحّب به واستمر معه لأكثر من أربعة أشهر، وتعرّف على عدد من الزبائن العرب "الدَسمين" المقيمين في تلك الولاية التي أكثر ما تشتهر بالأعاصير، وهناك تعرّف على أحدهم ورحّب به جداً، وبعد فترة دعاه إلى محلّه الجديد الذي خصصه في ما بعد للحلاقة، وبعد مضي حوالي شهرين من إنهاء التحضيرات لافتتاح المحل الجديد الذي تمّ افتتاحه، كان قد تعرّف إلى امرأة أميركية كبيرة في السن، كانت تعمل لدى صديق صديقه صاحب محل الحلاقة الجديد الذي يعمل لديه، وتكبره بأكثر من ثلاثين عاما. أحبته.. وبعد فترة من الزمن عقد زواجه عليها، إلاّ أنه لم يكتمل بالصورة التي أرادها، ورغم ذلك سجل في بعض الدوائر على أنه مرتبط بزوجة، وفكّر في السفر إلى سورية للاطمئنان على أهله بعد غياب نحو عام والعودة من جديد إلى أميركا مرة أخرى. في هذه الفترة كنتُ قد عدت إلى سورية، قبل سفر الحلاق ياسر بأشهر، وعودته إلى حضن الوطن.
طبيعي أنَّ أحلام صديقي الحلاّق في سفره للمرّة الثانية، بعد أن عرف بعض الشيء عن طبيعة الحياة في الولايات المتحدة، وأدرك بعض المفاهيم هناك.. استدرك في المرة الثانية الكثير من الإجراءات، وتجاوز العديد من السلبيات التي سبق أن وقفت حجرة عثرة في طريقه في زيارته لها في المرة الأولى.
كانت تحضيرات الرحلة الثانية إلى الولايات المتحدة مثالية إلى حدٍ ما، وكنت ساعدته في دفع مصاريف الرحلة، إضافة إلى دفع ما كان يترتّب عليه من شراء بعض الاحتياجات الضرورية، وإنهاء بعض الإجراءات الإدارية التي قد يستفيد منها في أميركا.
وبعد أن قطعنا آلاف الأميال في الطائرة وصلنا أخيراً إلى ولاية شيكاغو، وفي مطارها الدولي كان يجري التدقيق في وثائق سفر المسافرين القادمين إليها، وخاصة من آسيا، فتمّ احتجاز صديقي الحلاّق بعد أن تمّ عرضه على شرطة المطار وإجراء التحقيق معه، وتبيّن أنّه خالف إجراءات التأشيرة وتجاوز الفترة الممنوحة له في سفره في المرة الأولى، وهو الآن رهن الاعتقال وسيرحّل إلى بلده عبر الطائرة الفرنسية بعد قضاء ليلة في مراكز التوقيف. في اليوم التالي غادرت طائرته باتجاه مطار شارل ديغول في فرنسا، ومنه إلى مطار دمشق الدولي.. أما بالنسبة لي فقد تمّ منحي تأشيرة دخول لأراضي الولايات المتحدة لمدة ستة أشهر، إلاّ أنه وبسبب منع دخول صديقي وترحيله خارج أراضي الولايات المتحدة فضلت العودة إلى سورية مباشرةً، والسفر على أول طائرة، وهذا ما دعاني إلى البقاء في المطار ليومين متتاليين لحين موعد الرحلة المتجهة إلى الشرق الأوسط بعد أن دفعت لقاء ذلك مبلغاً قدره 2300 دولار أميركي لقاء تذكرة العودة فقط، كرمى عيون صديقي الحلاّق الذي تم احتجازه وتقييده، ومن ثم تسفيره موجوداً ومكبّلاً بالأصفاد، وكنت التقيت به صدفةً، للمرة الثانية، برفقة الشرطة الفرنسية في مطار ديغول الدولي، ومن حسن الحظ أننا عُدنا سويةً إلى أرض الوطن بعد أربعة أيام من تاريخ انطلاق الرحلة إلى بلاد النعيم التي لم تكتمل..!
وبعد أن وصلنا إلى مدينة الرقة، ومرور أكثر من شهرين من تاريخ العودة إلى مسقط رأسنا، زرته أكثر من مرّة في محل الحلاقة التي عاد إليها، وبدأ يمارس عمله فيها من جديد، بعد خيبة أمل البقاء والاستمرار في بلاد العم سام، وطالبته بالمبالغ المالية التي كنت قد ساعدته فيها قبل السفر، فكان يتهرّب من دفعها، ويتذرّع بحجج واهية ما دعاني إلى إقامة دعوى قضائية مستعجلة بحقه وإنكاره دفعي للمبلغ، وطالبته به مراراً بدون فائدة، على الرغم من أنه حلف اليمين الموجهة إليه، التي اكتفيت بها أمام قاضي المحكمة، ومع ذلك أصرّ على نكران دفعي للمبلغ ومساعدتي له وتكريمه الصداقة التي ربطتنا مع بعض، إلاّ أنه وللأسف، "داس" عليها، ولعن يوم وقوعها، وهذا يكون فصلاً منفراً من فصول الأصدقاء المحتالين الناكرين للمعروف الذي أنهى علاقة صداقة خالصة، قوامها المحبّة والود والاحترام، كشفت الأيام زيفها وعدم صدقها..

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.