هزليات السياسة الأسدية (27)

هزليات السياسة الأسدية (27)

28 يناير 2020
+ الخط -
موصى به من الرفيق رفعت
خلال سهرات الإمتاع والمؤانسة السابقة جرى الحديث عن نموذجين من البشر، أحدُهما سيئ ولكنه محظوظ، أعني "الحجي نديم شفلح" الذي نقلته الظروف والأحوال الشاذة - التي سادت في سورية منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة - من أجير في محل بيع السندويش في "عبارة الأوقاف" بحلب إلى مليونير كبير وعضو مجلس الشعب.. والآخر، أبو الجود، إنسان طيب، ولكنه فقير، ومنحوس لم يستطع أن ينجز عملاً بسيطاً هو مقابلة مدير المنطقة، وقد أضحكتنا محاولاتُه لإجراء المقابلة معه، وأضحكنا أكثر أنه حينما تمكن من الحصول على موعد للمقابلة، وأزف الموعد، مات مدير المنطقة!

قال أبو جهاد: بشرفي إنه أبو الجود محظوظ أكثر من الحجي نديم شفلح نفسه.

سألناه: كيف وصلت لهالاستنتاج الغريب يا أبو جهاد؟

قال: لإنُّه النحس لما بيكون كبير، وبينزل على المقابلة بين شخصين، بيقتضي إنه يموت واحد من التنين، يعني إما أبو الجود أو مدير المنطقة، واللي صار إنه الحظ حالفه لأبو الجود، ونفد من الموت!

قال كمال: نعم. وأنا بصراحة انبسطت لأنه القدر نَجَّا صديقي أبو الجود. بصراحة أنا ما بتخيل الحياة تكون جيدة ومهضومة بدونه. أما مدير المنطقة فما بيهمني إن عاش أو مات.
قال أبو زاهر: أنا عندي سؤال لأبو الجود. خيو، وليش بقى كنت مستقتل لحتى تقابلْ مدير المنطقة؟


قال أبو الجود: القصة صارت في سنة 1981 على ما أظن. بوقتها كان إبني محمود هربان من العسكرية كالعادة. أنا من زمان حكيت لكم كيف كان محمود ياخد إجازة ولما تنتهي الإجازة ويصير موعد التحاقُه بالخدمة يتكاسل ويبقى قاعد في الضيعة لوقت ما تجي دورية من الشرطة العسكرية تلقي القبض عليه وتاخدُه ع سجن تدمر. ولما يخلص الحكم تبعه يرجّعُوه من تدمر عَ القطعة العسكرية تبعه، كان يقعد في القطعة وينتظر لتطلع له إجازة ويجي ع الضيعة، وبوقتها كان ينعاد نفس الفلم. وفي يوم من الأيام كان محمود آخد إجازة، وأجا يزورنا شخص من قرايبين أم الجود اسمه "رفعت".

وهادا رفعت - حاشاكم - واحد وسخ، كل حكيه لت وعجن ومسخرة، وفوق منها منتسب لحزب البعث، وما بيرضى حدا يذكر إسمُه من دون ما يقول عنه "رفيق". المهم هادا الرفيق رفعت اجتمع مع محمود بشكل سري وعرض عليه خطة بتساعدُه على متابعة الخدمة العسكرية للأخير من دون ما يروح ع سجن تدمر. أنا ما كنت بوقتها بعرف أشو هيي تفاصيل الخطة، بعدين عرفت إنه قال له (شوف يا محمود، أهم شي لما بتغيب عن الخدمة إنه ما تخلي مدة غيابك تزيد عن 15 يوم، لأنه النظام العسكري بينص على إنه بعد 15 يوم بيعملوا فيك (إذاعة بحث).. إنته داوم يوم واحد وغيب 14 يوم، وعلى كفالتي ما حدا بيحسنْ يسجنك في تدمر. وبما أنه إبني محمود جحش - الله يعزكم - نَفَّذْ كلام رفعت بحذافيره. وفي يوم من الأيام، لما خلصوا الـ14 يوم دخل محمود على قطعته العسكرية، فاعترضوا سبيله خمس عساكر، مسكوه، وأخدوه لعند النقيب قائد السرية.

هادا النقيب سأله لمحمود: إنته ليش عم تداوم يوم وتغيب أربطعش؟

محمود جاوبه بكل بساطة: هيك قال لي الرفيق رفعت!

اندهش النقيب وسأله: شو هالحكي؟ ليش إنته بتعرف الرفيق رفعت؟

قال محمود: نعم سيدي، هوي ابن ضيعتنا، ومن قرايبين أمي.

فابتسم النقيب وقال لمحمود: استريح يا إبني استريح. وطلب له قهوة. وقال له:
- بتعرف يا محمود؟ أنا من تلات سنين صار موعد ترفيعي وما ترفعت، في ناس حقيرين حاشاك كاتبين بحقي تقرير قايلين فيه إني أنا بقفل على حالي باب المكتب وبصلي، يعني أنا قريب من عصابة الإخوان. يا أخي قسماً بالله هالحكي كذب، أنا ما بصلي أبداً، كمان بشرب عرق ووسكي، كمان وبعمل شغلات من يلي بيعملوها الشباب. فهمت علي مو؟

قال محمود: فهمت فهمت. أشو مطلوب مني سيدي؟

قال النقيب: بلكي بتحكي لي مع الرفيق رفعت يمشّي لنا موضوع الترفيع. هوي إذا ما بده يحكي مع هيئة الضباط مو مشكلة، خلي يكتب لي ورقة توصية، وأنا باخدها وبروح لعندهم.
هون ضحك محمود وقال للنقيب: يا سيدي هادا رفعت قرايب أمي متل عظرط لا بيحل ولا بيربط. الله يساعد، هادا خرج يرفعك؟

ضحك الحاضرون وقال أبو زاهر: أيوه. يعني هادا النقيب ظن إنه المقصود رفعت الأسد!

قال أبو الجود: نعم. وعلى حسب ما حكى لي محمود إنه لما عرف الحقيقة طق عقله، وركض ورا محمود بده يضربه، ومحمود طلع من المبنى وصار يركض بسرعة لحتى وصل للشريط المانع، وهرب برات القطعة، وأجا عالضيعة.. ولما عرفنا نحن القصة ارتعبنا، وقلنا لحالنا إنه ممكن هالمرة ياخدوه على تدمر ويخلوه هنيك بشكل دائم. وكان الخوف تبعنا في محله، لأنه بعد شي خمسة أيام أجتنا تبليغة بإسم محمود للحضور للمحكمة العسكرية بتهمتين الأولانية الهرب من الخدمة، والثانية انتحال صفة القائد رفعت الأسد!

قال أبو محمد: مصيبة والله. شلون حليتوها؟

قال أبو الجود: قررنا نخبي محمود عن الأنظار لبينما نلاقي له حل لمشكلته. وفي يوم من الأيام أجاني واحد من الضيعة وقال لي إنه قائد منطقة إدلب هوي صديقُه الشخصي لرفعت الأسد، من ضيعة قريبة من القرداحة، وهوي من قرايبين أمه عن جد، وإنه إذا بتقابله وبتحكي له القصة، ممكن هوي يحكي القصة لرفعت (الأصلي)، وممكن يلاقي إنه هالقصة بتضحّك، ويعفي عن محمود، ويبلغ قطعتُه إنه هوي عافي عنه.

ضحكنا جميعاً. وقال كمال: معقدة.

قال أبو زاهر: وإنته رحت لتقابل مدير المنطقة، وهوي من سوء حظك مات. بس شلون انحلت قصة محمود؟

قال أبو الجود: محمود راح قعد في ضيعة براس الجبل، عند واحد من أصدقائي.. وبعد سنتين من هالحادثة سمعنا إنه رفعت الأسد علق مع أخوه حافييظ، وكل واحد من التنين دار سبطانات المدافع على الشام وصار يقله (يا بتترك لي الحكم وبتمشي يا إما بهد الشام فوق أهلها).. وبالأخير أجت الوالدة تبعهن وأقنعت رفعت إنه ياخد له خمسمية ستمية مليون دولار ويطلع برات البلد. وطلع. ويوميتها محمود نفد.

(للقصة بقية)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...