الصياد وعلم "الشقطولوجي"!

الصياد وعلم "الشقطولوجي"!

27 يناير 2020
+ الخط -
في سيتي ستارز، التقيت وصديقي المذيع محمد عبد الله بابن تغري بردي (ت 874هـ)، صاحب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وصلاح الدين الصفدي (ت 794هـ)، صاحب الوافي بالوفيات، وفي مطاوي الحديث ذكرا التنوخي (384هـ)، صاحب نشوار المحاضرة، بكل الخير، وأنهما نقلا عنه طرفًا من حياة بجكم التركي..

وبجكم هذا أمير تركي، كنيته أبو الخير، عاصر بني بويه إبان حكمهم مدينة السلام (بغداد)، وقتل أحد أمرائهم، وكان رجلًا ألمعيًا -يُلقطها وهي طايرة- وفهم العربية ولم يتحدث بها خشية أن يلحن أو يُخطئ، والخطأ -وَفْقَ منهجه- من الرئيس قبيح.

وفي طريقنا -سيرًا على الأقدام- من سيتي ستارز إلى شارع لوساكا -متفرع من شارع أحمد فخري- ذكر ابن تغري بردي قصة وقعت في بلاط بجكم، إذ دخل عليه واعظٌ وعظه بالعربية والفارسية، حتى اخضلت اللحى بدموع التوبة، ثم خرج الواعظ لا يلوي على شيء، لم ينتظر هِبةً ولا عطاء؛ فعظُمت في نفس بجكم مكانته، وأرسل بعض غلمانه بألف درهم لهذا الواعظ الزاهد، وقال لمن حضر مجلسه: هذا رجل متعفِّفٌ زاهد، ماذا يصنع بالدراهم؟ وما أظنه يأخذها!


أقبل الغلام صفر اليدين، وخابت فراسة بجكم مثلما خابت فراسة نوستراداموس وإدغار كايس، وضرب بجكم أخماسًا بأسداس، ثم قال كلمته النفيسة: "كلُّنا صيادون، ولكنَّ الشِّباك تختلف".

بعد بجكم، مرت مئات السنين، وجلسنا يومًا على الكورنيش، ليس لأننا من المساكين على طريقة الست -أهل الحب- ولا لأن الزهر لعب والدنيا ربيع والجو بديع، لكن استراحة محارب داخ "السبع دوخات"، وقطع ماراثونات -بحوزته سيرة ذاتية هزيلة- بحثًا عن فرصة ولو كانت عجفاء!

في هذه الأثناء، تتراءى للمرء تناقضاتٌ شتى، لا أذكرها على وجه الدقة لكثرتها ولتباعد الزمن، لكن موقفًا واحدًا يستعصي على النسيان، إنه موقفٌ جمع بين الأروى والنعام، ووضع البيض -كلَّ البيض- في سلة واحدة، وأضحكَ ربّات الحداد البواكيا. ساعتها، وأرجو أن تسامحني في سقوط بعض التفاصيل الرفيعة؛ لأن ذلك لم يكن أمس ولا حتى بالأمس القريب، إنما قبل مئات السنين!

تجاذبنا أطراف الحديث في شؤون الإعلام، واحتمال ظهور عملاق يدعى "السوشال ميديا"، وأنه سيفرض نفسه -باعتبار ما سيكون- على الثقافة التقليدية، وسيقلِّص فرص القنوات الأرضية وشرائط الفيديو ووصلات الدش، وسيغزو العالم من أقصاه إلى أقصاه -برضه- وسينادي بأعلى صوته: هل من منافس؟! فجأة، ذرع الطريق رجل وقد ألصق حاجبيه وشمَّر وجهه غضبًا، تحسبه نذير حربٍ كشفت عن ساقها، وارتفع صوته حتى سقط دهان الحوائط من حولنا، تبدو لك البسوس في سحنته وحركته.

بُعيد قليل، جاءت سيارة فأرسلوا واردهم يستطلع الأمر، وغلت مراجل الفضول في نفوس أصحابنا، ونسوا -أو تناسوا- أننا في استراحة سنكمل بعدها "كعب داير" بحثًا عن وظيفة ولو باليومية! تهامس الجمع ووجدوا مادة للتسلية أو التسرية، بعيدًا عن وجع دماغ مقابلات العمل، ومحاولة الخروج بربع خبر صحافي، وعزف من شاء على وتر نظرية المؤامرة، ومنّى نفسه أن يكون الأمر جللًا؛ ليكتب عن جاسوسٍ اكتُشف بالصدفة، أو عملية خطرة أُجهِضت في مهدها، ولكل ذلك يسيل اللعاب، وتُنسج حوله الكتابة حتى وإن كانت أكذب مما قال مُسيلمة، أو سِجاح، أو ستيفن غلاس، أو جيسون بلير، أو جوهان هاري، أو كلاس ريليتيوس، أو غيرهم ممن كتبوا قصصًا صحافية مُختلقة أو مُنتحلة.

تغلَّب الحس الصحافي على رجلٍ من بيننا، وجاءنا بخبر جهينة، وعند جهينة الخبر اليقين، وامتدح الرجل الحنجرة ونعته بالشهم، وعلمنا أن دماء الشهامة والرجولة بلغت في عروقه المئتين وتسعين فهرنهايت، ومبعث ذلك أنه رأى بأم عينه فعلًا مش ولا بُدّ في مكان عام!

مزَّق أحدنا شفته السفلى، وقال بكمد: يعني لا شغل ولا حتى مشهد كالذي رآه صاحبنا؟! ودارت التخيلات في الصدور -مع فارق التشبيه الشاسع- كما يدور الحمار في الرحى، كلٌّ على ليلاه غنى بعدما دوزن وتمنى، وتساءل بعضهم: فيه إعادة لما رآه الأخ؟ لازم يكون هنا شيء أشبه ما يكون بتقنية الڤار VAR لئلا نتهم الناس جُزافًا، ولنتثبت من الأمر ونقف على حقيقته وواقعه.

وصاحبنا هذا معروف بحب الجمال، كيوبيد الشرق والغرب، كازانوفا الصحافة، يطيش عقله إن رأى فستانًا أو ڤيزونًا ولو من بعيد، لا يمنعه من ذلك قِصر قامته ولا ضعف نظره ولا ترهلات من رأسه حتى قدميه، ويطيب له أن يُقرن اسمه بنزار قباني؛ فيقال: نزار شاعر الفساتين وفلان -وأرجوك ألا تضغط عليَّ طلبًا لمعرفة اسمه- قتيل الفساتين!


لكنه سكت -مؤقتًا- حين رمقته العيون، ولم يجد له من الحاضرين وليًا ولا نصيرا، واستشعر الحرج وندم ندامة الكُسعي والفرزدق. انبرى آخرون يطرون على الرجل الشهم، وقيل إن الدنيا لسه بخير، وانقطع خيط الحديث إذ أقبل علينا ضابط ومعه بعض المخبرين المتحفزين، هنا انحبست الأنفاس انحباس عفريت في قمقم، واصفرّت الوجوه ترقُبًا للمشهد التالي.

نادى الشهم على الضابط بصوتٍ لا يخلو من نبرة استعراض: هنا حضرتك! البيه هنا يا فندم! حينها أدركنا أن الرجل الشهم سيغسل عار المكان العام، وأنه أبلغ السلطات لتنظف المكان من تصابي هذا البيه المُبهم، ووقف الرجل الشهم وقفة الأستاذ حسين فهمي، حين أطرى على صلاح جاهين على لسان السندريلا "تقولش أمين شرطة اسم الله"!

مرت دقائق، "دقايق تضايق" على مذهب الأستاذة أنغام، واستخلص الضابط بحنكته أن الموضوع تافه، وأن هذا الشهم بلغة أهلنا في الخليج "ما عنده سالفة"، وأن بلاغه "بلاغ كيدي" لخلافه مع هذا البيه المزعوم، وانسحب الضابط بهدوء دون جلبة أو صياح. لم يهدأ شيطان الشهم، وآلى على نفسه أن ينتقم لنفسه، انتقام من النوع الناعم، انتقام لم يخطر على بال الأستاذ أحمد زكي في "الراعي والنساء". بعد خروج الضابط، لم ينقطع الثناء على الرجل الشهم، إذ غلبت على سلمان الشيخ النزعة الخطابية فقال: لولا أمثاله لتوغلت الذئاب، ولانتشرت الوقاحات في الشوارع والطرقات، وهذا الشهامة لم تنقرض من المجتمع! همَّ حمادة لطفي أن يذهب ويقبِل رأس هذا الشهم، وأن يشكره بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عنَّا.

قبل أن يتحرك حمادة من مكانه ليقبِّل جبين هذا الشهم، سرت في أجساد الحاضرين رعدة غريبة، كنا يومها في فصل الصيف، وإن ذاعت جملة شهيرة من فيلم "حكاية 3 بنات"، إذ جاء على لسان بعضهم جملة (توب علينا من الصيف وبلاويه، واللي بيجرى فيه)؛ فإن موقفنا أصدق تعبير يناسب تلك العبارة المُلغَّمة. مرَّ الشهم من أمامنا، مرَّ مرورًا ليته طال واستطال، والتهمتنا دهشة لم تكن في الحسبان، ونظر بعضنا إلى بعضٍ كأن على رؤوسنا الطير، وبعدما انقشعت سحابة صيف الدهشة، قال قتيل الفساتين وهو يشير إلى الشهم إياه: "أفلح والله! هذا علم يُدعى "الشقطولوجي"، لم تسمعوا به، ولن تبلغوا مداه".

لحظتها فقط أدركنا أن "الشقطولوجي" من الشقط، وهو فن وصنعة، نوع من التقرُّب للجنس الناعم بطريقة مبتكرة، يُظهر فيه المرء المروءة والشهامة لا "لخاطر سواد عيون" المروءة أو الشهامة في حد ذاتها، وإنما استدراجًا لهذه أو تلك، ويرمي الشبكة حتى يصيد، وما لا يُنالُ اليومَ يُدرَكُ في غدٍ، وإن غدًا لناظره قريب.

قطع الشهم كلَّ شكٍ باليقين، إذ انتظر طويلًا لكنه ظفر ببغيته وخرج بصيدٍ ثمين، وإن نصحنا الأول بقوله "التقل ورا يا قباني"، وجاء من بعده من قال "اتقل تاخد حاجة نضيفة"، ثم نصحنا طباخٌ ماهر -لا يقل عن الشيف شربيني والشيف حسن والشيف أسامة- بقوله "اتقل ع الرُّز يستوي"؛ فقد خرج الشهم -على مرأى منا ومسمع- بفرز أول، وبمواصفات -ولا أبالغ قيد أنملة- مطابقة للمعايير القياسية، جمع فيها مؤهلات كريستينا هندريكس، هايلي آتويل، آلكسندرا داداريو، شيروتي حسن، وكات دينينغز.

هذه اللحظات الجميلة لم تخلُ من منغصات، يعلِّق أحدهم "قل للمليحة بالقميص الأسود"، بالرغم من أن كريم العراقي خاطب المليحة بقمصان أُخر؛ فقال "قل للمليحة بالقميص الأبيض/ مطرٌ وبردٌ حُلوتي لا تمرضي/ هل تسمحي لي أن أُعِيرَكِ مِعطفي/ الرَّأيُّ رأيُّكِ إنما لا ترفضي)، واستعار أحدهم بيتَ أبي تمام (أغارُ من القميص إذا علاه/ مخافةَ أن يُلامِسَهُ القميصُ)، وثالث قال "متجرِّدة"، ولم أفهم ماذا يقصد بمتجردة، إذ ارتدت ما زاد عن ورقة توت، أو كان يرمي إلى المتجرِّدة صاحبة النعمان بن المنذر، وكيف أغواها المنخل اليشكري، أو قال "متمردة" على طريقة القيصر كاظم الساهر وكريم العراقي.

لا أخفيك عزيزي القارئ سرًا -أم تحب أن أكذبَ عليك وأُخفيِك؟- لقد شعرنا، عن بكرة أبينا -ولا أستثني أحدًا- بحالة من البهجة قلما تتكرر، ومع ذلك يصحو صوت الفيلسوف؛ فيطالعنا عمنا أحمد الجنابي، ويردد على مسامعنا صوت بلدياته أحمد مطر (قال لابنه اسكت/ ولزوجه انكتم/ صوتكما يجعلني مشوَّش التفكير/ أريد أن أكتب عن/ حرية التعبير)، ثم أردف: الجمال نعمة، ومن الكبير يدلع، لكنما المؤسف أن يغضب المرء لأنه لم يشارك في وليمة ما، ويتلو من الآيات والأحاديث ما يعضِّد به موقفه، ويتشنج في طرحه ويبالغ في عرضه، ويستصرخ القيم والمثل والمبادئ والعادات والتقاليد؛ فإن ولغ في الإناء سكنت ثائرته وهدأت نفسه.

طلب سلمان الشيخ الكلمة، ودغدغ الأسماع بكلمات لا أتذكر منها إلا قوله: هذا ورعٌ باهت، وإيمانٌ فيه عور، على طريقة قولنا في الفريج أيام الشباب الأول "فيها يا أخفيها"، وإذا كان الجنابي استشهد بأبيات ابن عراقه مطر؛ فإني أستشهد ببلدياتي محمد المقرن في قوله (ألقى محاضرةً في الفقر مبكيةً/ وأطرقَ الناسُ إعجابًا بما فيها/ أدى أداءً عظيمًا بيد أن به/ عيبًا: زكاةُ سنينٍ لا يؤديها!).

كثيرًا ما تنطلي علينا مظاهر خداعة، أو كلمات معسولة رنانة، ولا نفيق من سكرتنا إلا على فحيح أفعى التناقض الصارخ، إذ "من خالفت أقوالُه أفعالَه/ تحولت أفعالُه أفعى له)، وليس بالضرورة أن تُجهز عليه في المرة الأولى، ولا حتى في المراتِ الأوليات، لكن يومًا ما سيسقط القناع، وستناديه الأستاذة شيرين عبد الوهاب بلهجة التهكُّم "شكرًا يا شهم"، وسيعلم الذين (شقطوا) أيَّ منقلبٍ ينقلبون.