أيديولوجية الاحتجاج العراقي... بدل تالف!

أيديولوجية الاحتجاج العراقي... بدل تالف!

26 يناير 2020
+ الخط -
من الصعوبة قيام الجماعة وسقوطها من دون أيديولوجيا تتحكم بمشاعرها وقراراتها ونسقها الثوري الذي يدعم وجودها ومساحة تحالفاتها ورؤيتها المستقبلية للأمور.

أيديولوجيا الجماعة تتعلق في الواقع بالموضوع الرئيسي الذي سيطر على الساحة العربية في مرحلة زمنية امتدت لأكثر من نصف قرن، وهو صعود وسقوط الأيديولوجيات السياسية العربية كالليبرالية والماركسية والاشتراكية والقومية والأصولية الإسلامية.

هناك عدة أسباب أسهمت في نشأة الأيديولوجيات السياسية العربية. ولعل أهمها صدمة الهيمنة الاستعمارية على المجتمع العربي، وغياب الهوية الجمعية وسقوط الإمبراطورية العثمانية المتبنية للأصولية الإسلامية؛ والتغيرات السياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمع العربي. وصعود الحركات القومية العربية.


بعد ضياع فلسطين عام 1948، نشأت جماعات سياسية لها نظرات جديدة، ولها مصالح وقيم جديدة، وباختصار إيديولوجيات جديدة. كان أول ظهور للمصطلح على يد الفرنسي ديستوت دوتراسي (1754 – 1836) في كتابه "حول ملكة التفكير"، وتجمع الكلمة لفظين "idea" وتعني فكرة، و"logos" وتعني علم أو دراسة. وعند تركيب اللفظين يصبح المصطلح هو "علم الأفكار" الذي يعرّفه دوتراسي بأنه "العلم الذي يدرس الأفكار، بالمعنى الواسع لكلمة أفكار".

العراق الذي كان على نصف قرن مضى محط الأفكار والرؤى السياسية المتعددة، فهو أرض خصبة لكل فكر جديد يغزو العالم. كانت فكرة القومية العربية والعروبيين مرورا بالشيوعية ونظرية الإسلام السياسي ومن ثم حركات المقاومة الإسلامية وتأثير العلمانية ثم المدنية بأشكالها المتعددة تتلاطم في أرض ما بين النهرين وتتصارع لتشكيل الكتلة الكبرى في مساحات الفكر العراقي. فتنتصر واحدة وتخسر أخرى ثم تنتهي وتصعد أخرى.

في العراق وحده نشأت حكومات جربت كل الأفكار الأيديولوجية، فمن الملكية إلى الجمهورية الاشتراكية ومن ثم إلى العروبية، ومنها إلى القومية، وبعد ردح طويل من الزمن عاد الإسلام السياسي ليتربع على عرش السلطة.

ترى ما موقف جيل الاحتجاجات من كل هذا؟
هذا الجيل الذي لم يدرك كل الأفكار التي مرت ببلده؛ ولكنه عاش تبعاتها وسلبياتها جميعا، فهو مادة خصبة لكل التيارات الفكرية، تارة يُسحب إلى العلمانية، بينما الشيوعية تقف له من بعيد تشير له بالرومانسية، بينما راحت المدنية تصور له الحياة الوردية، وآخرها وقف التيار (القومي – البعثي) من خارج الحدود يتوعد برجوعه، بالتزامن مع صيحات السلطة الحاكمة حول الالتفاف على كل الحركات الاحتجاجية من قبل القتلة –البعث-.

إنّ نشأة الأيديولوجيا عادة ما تكون لسبب وحاجة، لذا جيل الاحتجاجات لم ينشأ أيديولوجيا معينة بقدر ذلك الشيء الذي فقده، وهو؛ الحق والبحث عن مواطنة تجمع شركاؤه في الوطن.

قطع وعي الفرد العراقي شوطًا نحو شعوره بمواطنته، فالحقوق الأساسية، وتقديسها، كانت المحفز الأساسي لهذا التحول، فنحن أمام شباب يمارسون الإيثار بالنفس من أجل حقوق مواطنتهم، لا من أجل قضايا دينهم، أو طائفتهم، شباب يرفعون شعار "نريد وطناً" وآخر يتحدث عن أزمة فقدان الوطن أكثر من حديثه عن حاجاته المفقودة.

إن هذه الجماعة لم يجمعها أي تنسيق، أو قيادة، ولا رابطة عقائدية أو فكرية، سوى ألم فقدان الحقوق، وهو ما يمثل لهم فقدان الوطن.

وبالمناسبة، إن سقوط الأيديولوجيا هو بمثابة أيديولوجيا جديدة! ولكنها مختلفة عما سبقتها والتي نشأت منذ نصف قرن مضى. أيديولوجيا تبحث عن مكامن الاستقرار والاشتراك في العقد الاجتماعي بين الشعب والسلطة.