عشان البلد تمشي!

عشان البلد تمشي!

26 يناير 2020
+ الخط -
قبل أيام من انتهاء علاقتي بصحيفة (الشروق) القاهرية، التي ظللت أكتب فيها طيلة عامي 2012 و2013، بسبب منع نشر مقال لي بعنوان (الماريشال السياسي)، لأنه كان يتطرق إلى حكاية منح رتبة المشير لعبد الفتاح السيسي، ويربطها بحصول عبد الحكيم عامر من قبله على رتبة المشير دون وجه حق، كنت قد كتبت مقالاً في ذكرى جمعة الغضب، نُشر بتاريخ 27 يناير 2014، بعنوان (الأنهار لا تعود إلى منابعها)، وهو مقال  أعتز به كثيراً، وأجده لا يزال يعبر عن موقفي من كل محاولات تشويه ثورة يناير، وأتمنى أن تجد في إعادة نشره فائدة أو ذكرى من تلك التي تنفع المؤمنين بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية. 

...

"ضحكات شريرة متقطعة ستطلقها في وسط حزنك وأساك، حين ترى خيبة أمل الذين قفزوا من مركب ثورة يناير لحظة اشتداد القصف الأمني والإعلامي عليها، قبل أن يدركوا أن أسيادهم لا زالوا بحاجة إلى ثورة يناير حية ولو إلى حين، لأن الإجهاز عليها الآن سيصبح عبئاً يعطل عملية إكمال السيطرة على البلاد، لذلك لا مانع من إبقائها محجوزة في العناية المركزة، حتى يتم فرض واقع جديد يحمل إنجازات شعبية تجعل إعلان وفاتها مجرد تفاصيل لن تشغل بال أحد.

قبل انتهاء مسرحية الاستفتاء، ساد صمت رسمي مطبق ومتعمد على كل ما تعرضت له ثورة يناير من تشويه، لأن أصحاب السلطة كانوا يدركون أهمية ذلك في اجتذاب وطمأنة تربيطات العشائر والعصبيات والمصالح الإقتصادية التي كانت تدعم الحزب الوطني المبارك. أما الآن وبعد أن عبر الدستور بسلام، فقد كان لا بد من توجيه رسالة للجميع بأن التشكيك في ثورة يناير سيشكك بالضرورة في قيادات المجلس العسكري الذين تفاخروا دائما بحمايتها، وهو ما سيمنح الإخوان سلاحا سياسيا أقوى من سلاح الشرعية الفاسد، لذلك كان على الدولة أن تحتفل في طقس دموي راقص بثورة يناير التي حماها الجيش وسرقها الإخوان وقتلوا شبابها الطاهر، وتم تصحيح مسارها في ثورة يونيو التي حماها الجيش ولن يسمح بسرقتها أبدا أيا بلغ عدد من تسقطهم الداخلية قتلى وجرحى ومعتقلين، ولذلك ظهر فجأة الحديث عن دور السيسي في دعم ثورة يناير، ونشرت صحيفة المصري اليوم تصريحات منسوبة له بأنه لا عودة إلى ما قبل 25 يناير، وتحدثت عن اتصال جهات سيادية بعدد من القنوات الفضائية لتطلب التوقف عن حملات تشويه ثورة 25 يناير.

للأسف يبدو أن قادة البلاد لم يدركوا بعد أن أحوالها المتردية تجاوزت فكرة تشويه يناير أو يونيو، فقد عادت السلطة فعلياً إلى عهدة المؤسسة العسكرية منذ لحظة التفويض، وبات واضحاً أن أغلبية الشعب لن تختار إلا رئيسا قادما منها أو مدعوما منها "عشان البلد تمشي"، المهم أن يدرك هذا الرئيس سواءً كان السيسي أو من سيدعمه السيسي، أن البلد لن تمشي فعلا إلا إذا تغيرت طريقة مبارك في إدارتها ببركة "ترزية قوانين على لواءات في كل حتة على شوية مثقفين مبرراتية بعضهم أصحاب تاريخ مشرف، على بغبغانات إعلام من كل صنف، على سجون بتتملي، ودم في الشوارع إن لزم الأمر، على تدفقات نقدية خليجية تسند لغاية ما يتحقق استقرار يضبط الإقتصاد"، لأن تكرار هذه الطريقة في ظل احتقان اجتماعي خطير وتدهور اقتصادي مزري وغليان شبابي مضطرم، سيجعل مصير مبارك بالنسبة لأي رئيس قادم مصيراً شديد الرفاهية والدلال.

ما نلمسه حتى الآن أن المتنفذين في أجهزة الأمن والإعلام ودوائر البيزنس، لم يفهموا بعد أن كراهيتهم لثورة يناير وانشغالهم بتشويهها لن يفيدهم في شيئ، لأن يناير لم تكن إلا نتيجة فرضها واقع متأزم، وهو ما يجعلها أكبر من كارهيها ومن محبيها، ولذلك إذا أراد الرئيس الذي سيدعمونه النجاح، فعليه أن ينشغل وينشغلوا معه بصياغة سياسات جديدة لتغيير الواقع الذي كان سبباً في تفجير يناير، لأن ذلك وحده الذي سيحقق هدوءاً فعليا في الشارع، هدوءاً مبعثه الشعور بالتغيير وليس الخوف من البطش، وإلا فإنهم سيزيدون مع كل قرار خاطئ من عدد الأفراد المستعدين لمواجهتهم في الشارع، وهؤلاء سيكونون أصعب في ضربهم من جماعة الإخوان التي لا يعمل أحد على مواصلة عزلها شعبيا مثلما يفعل قادتها كلما فتحوا أفواههم أو أصدروا بيانا لا يزيدهم إلا خبالاً وتخبطاً.

لكن الحماقة ستظل دائما تُعيي من يداويها، ولذلك لا يخفي المعادون لثورة يناير نشوتهم بما يظنونه نصرا حاسما حققوه على ثوارها، كنت سأتفهم نشوتهم لو كانوا قد نجحوا في خلق ملامح لأي تغيير قادم ولو حتى على مستوى الخطاب الإعلامي والسياسي، أو قدموا أي أمارة تثبت أنهم سيحكمون مصر بفكر مختلف وخيال جديد، لكنهم حتى الآن لم يفعلوا شيئا سوى إعادة إنتاج رخيصة الخيال غنية الدم لمأساة حكم الفرد التي لا زالت مصر تدفع ثمنها، وهو ما ذكرني بما كتبه المفكر الفرنسي جوستاف لوبون ـ مع أنه لم يكن من محبي الثورات الشعبية ـ عن حماقة أصحاب المصالح الذين يحاولون ترويض نهر الثورة دون أن يدركوا أن "الأنهار لا تعود إلى منابعها"، وأن السيطرة على نفسية وعقول الجماهير ستكون أسهل بصناعة واقع جديد يستوعب نهر الغضب الذي أنتج الثورة.

في ظل مناخ فاشي هستيري لا يوجد أمل في أن تقنع من حولك بأن كل ما يحدث يؤكد أن السلطة القمعية تصنع لنفسها كل يوم بغبائها مأزقاً جديداً وعدواً شرساً، لأن البعض سيظنك متفائلا والعياذ بالله، وسيصرخ في وجهك إن كان مهذبا صرخة محمود عبد العزيز الشهيرة "يا عم باقولك أنا مش أنا.. صدق العليل ولا تصدق التحاليل"، لذلك لا تحاول عندما ينعي لك ثائر ثورته، أن تواسيه مثلا بعبارة المفكرة روزا لوكسمبورج الرائعة: "الثورة هي شكل الحرب الوحيد الذي لا يأتي النصر فيه إلا عبر سلسلة من الهزائم"، فكثيرا ما يكون الشعور باليأس أكثر راحة للنفس البشرية من تحفيزها على الصمود حتى يتحقق نصر غير مضمون الموعد.  

لا بأس، ستتبدد حتما سكرة نصر راكبي السلطة الموهومين، ليجدوا أنفسهم مطالبين بتقديم حلول لمشاكل الواقع التي تسببت أصلا في اندلاع الثورة، وعندها لن تنفعهم رطرطة الكلام عن المؤامرات الدولية والثوار الملاعين، لأن الناس يمكن أن تأكل الأونطة، لكنها لا يمكن أن تعيش عليها إلى الأبد، وحتى يحدث ذلك سيبقى ما يشعر به أي ثائر من مشاعر المرارة والحزن أمراً يخصه وحده، وربما حمل له بعض العزاء إدراكه أن نهر الثورة لم تفجره إلا مطالب شعبية، ولذلك، مهما تم تحويله ليصب في مصلحة مؤسسات الدولة الفاسدة، أو وضعوا سدودا قمعية لتمنع تدفقه، فإن الوسيلة الوحيدة للسيطرة على نهر الثورة، ستكون بإيقاف الأسباب التي فجرته منذ البداية، والتي يمكن أيضا أن تجدد ثورته في أي وقت.  

في البدء كانت الحكاية وستظل: "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية". 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.