معركة العقيد في إف واحد

معركة العقيد في إف واحد

24 يناير 2020
+ الخط -
على أحد أرصفة المدينة الصغيرة ينطلق شاب بحركات ناشطة وعينين متألقتين ووجه بشوش، يخطو بخفة نحو مدخل إحدى العمارات المبنية من الحجر السوري المنحوت. وقبل أن يصعد الدرج الضيق يطل بنظرة رضى على لوحة مضاءة في المدخل، في وسطها كُتب بخط النسخ الجميل (باسكال للكومبيوتر) كان ذلك المكتب البسيط الذي أسسه الشاب في بدايات عصر الكمبيوتر بمثابة منتدى ثقافي بمستوى البلدة، علاوة عن كونه ملتقى لهواة الكومبيوتر في بدايات رواجه. كان أصدقاء باسكال يقصدون المكتب للحوار ولتبادل الخبرات، ومنهم من كان يقصده للتفريج عن همه أو لالتماس المشورة في كمبيوتره.

في المدينة أيضاً ضابط مشهور برتبة عقيد، يسكن منزلاً فسيحاً مبنياً من الحجر السوري المنحوت، لكنه محاط بأشجار سرو عالية وبحراسة مشددة، ولا أحد يدري ما يدور خلف تلك الأسوار. استيقظ العقيد ذلك اليوم من قيلولة ما بين السفرتين-الغداء والعشاء- عكر المزاج، مخنوق الأنفاس، مشلول الوعي، من تأثير كأسين من الويسكي كرعهما مع غداء دسم ثقيل. كلّ من يتسنى له رؤية العقيد يقرأ في وجهه علامات غرائز شريرة، نبتت تلك الغرائز وتأصلت إلى أن أصبح الرجل كتوماً حقوداً تشوبه روح الانتقام. دفن أنبل العواطف في قلبه لكنه تعلم سبر أغوار الناس، فأصبح بارعاً في فن الحياة. أدرك هذا السر الكامن في السلطة، وسعى إليها بكل الوسائل حتى أتته صاغرة على مرامه.

في ذلك المساء كان العقيد يفتش عما يمكن أن يغير مزاجه العكر، فآل إلى قرص كومبيوتر فيه من أجساد النساء ما لذ وطاب. وبوجه مليء بالتشوق أعطى أوامره لجهاز الكومبيوتر بالإقلاع، وأفخاذ ونهود وأشياء رائعة أخرى ترتسم في مخيلته. ولكن على غير ما هو متوقع توقف جهازه على شاشة سوداء مليئة بلغة لا يفقهها. غضب العقيد من ذلك الجهاز اللعين، أين هي تلك الألوان والنوافذ التي تشغل الأقراص؟ وحين لم تستجب لوحة المفاتيح لأوامره العبثية صرخ صرخة مدوية جعلت المساعد الأول يحضر ملهوفاً أمام سيده: أحضِرْ أشهر مشغل كومبيوتر في المدينة.

توقفت سيارة لاند روفر أمام لوحة باسكال للكومبيوتر، ترجل منها عناصر دورية عسكرية واتجهوا صوب مدخل العمارة المبنية من الحجر السوري المنحوت صعدوا درجات السلم الحجري بخطوات واثبة. اقتحم عناصر خمسة مكتب الكمبيوتر وبعد دقائق شوهد ذلك الشاب المتفائل مخفوراً صوب السيارة العسكرية.

حين ولج الشاب القاعة الكبيرة في منزل العقيد، كان ذلك الرجل المشهور في شخصه، المجهول في شكله، عاري الصدر، متجهم الوجه، أشعث الشعر، مخموراً، ربما لم يستيقظ بعد من سكره الثقيل. ومن دون أن يتفوه بكلمة واحدة، أشار العقيد بسبابته صوب جهاز الكومبيوتر المتوقف على الشاشة السوداء اللعينة. أدرك الشاب مشكلة الكمبيوتر ومشكلة العقيد في آنْ، أدرك ذلك من نظرة بعيدة إلى تلك العبارة المألوفة المكتوبة باللغة الإنكليزية، فتقدم بخطوات واثقة نحو الشاشة السوداء، ومن مسافة تكفي ليمط جذعه وتلامس يده لوحة المفاتيح، نقر تلك النقرة السحرية فوق زر إف واحد متقصداً استخدام إصبعه الوسطى، واستدار عائداً من حيث دخل بخطوات رشيقة دون أن ينظر حتى إلى الشاشة تاركاً العقيد في ذهول، فقد كان واثقاً أن المسألة في غاية البساطة، وأن العقيد الذي كان يخشاه كل الناس في البلدة، كان يخشى لوحة المفاتيح في كمبيوتره.

دلالات

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.