محاكم مأسوف عليها!

محاكم مأسوف عليها!

24 يناير 2020
+ الخط -
كانت المرّة الأولى والأخيرة التي اضطرّتني ظروفي إلى الامتثال إلى أحد القضاة بعد أن تمّ استدعائي إلى دار المحكمة لجهة نشر مادة صحافية كان فيها الادّعاء تربطه علاقة ودّ غير طبيعية مع عدد لا بأس به من القضاة الذين لم ينصفوا يوماً أحداً، وكان كل ما يهمهم هو الإيقاع بالخصوم في القضايا المرفوعة ضدّهم، وظلّ لسان حالهم يشكو من دون فائدة. وهذه الحالة أوقعني في شباكها مادة صحافية سبق أن نشرتها في إحدى الصحف الرسمية السورية قبل زمن ليس بالقصير، وكنت تناولت فيها واقع الرغيف والحال السيئ الذي وصل إليه، وغياب الدور الرقابي عن هذه المادة الرئيسة التي تكاد تكون زاد المواطن الوحيد، وهاجسه اليومي الذي لا يمكن الاستغناء عنه، على الرغم من المعاناة غير العادية التي يضطر إليها المواطن في البحث عنها طوال يومه من دون كلل، فضلاً عن وقوفه ساعات وساعات مضنية منتظراً دوره على شبابيك الأفران العامّة والخاصة ليتمكن من تحصيل ربطتين أو ثلاث ربطات من الخبز لسد رمق أسرته، وخروجه من فوضى الازدحام الشديد ليس بالأمر الهيّن أبداً، وإنما ذلك ما يعرّضه إلى خروجه، في أغلب الأحيان، خالي الوفاض!

هذا جانب، والجانب الأهم هو واقع ما كان يحدث ضمن هذه المخابز التي تقدم الرغيف السيئ للمواطن، فضلاً عن نقص وزن الربطة المباعة وغياب النظافة والإهمال.

أيّ أنّ المواطن لطالما تعرّض لسرقة حقيقية، وفي عزّ النهار، والأنكى أنّ ذلك يحصل وبعلم الجهات الأمنية والرقابية المسؤولة عن إنتاج ومراقبة هذه المادة، وبدون وجل!

الأهم بالنسبة للمواطن هو حصوله على الرغيف وسط الازدحام الشديد وسد حاجته وأسرته بعيداً عن نوعية الخبز المنتج الذي كان يتحوّل قسم كبير منه إلى علف للحيوانات!
ما يجري لم يعد بحال السكوت عنه ممكناً، والجهة الرقابية والمصنعة لم تُعر ذلك أية أهمية كانت، بل إنها كانت تشارك في تحدي المواطن، واستمرار نهبه وسرقته والضحك عليه عيني عينك.
الحلول كلها كانت شبه وقائية لم تكن جذرية، والمستفيد من كل ذلك كله العاملون في هذه المخابز، وعلى وجه التحقيق رؤساء الورديات العاملون في المخابز الحكومية. وبحسابات بسيطة فإن واردهم اليومي يتجاوز ما قيمته ثمن ألفي ربطة خبز كحد أدنى نتيجة نقص وزن الربطة. طبيعي أنَّ العدد كان يزداد أو ينخفض حسب كمية العجين اليومية المقرّر عجنها، والمواطن، وكما ذكرنا لم يعد يهمّه نوعية الرغيف بقدر ما كان يهمه الحصول عليه، وبأي سعر كان، وإن كان سيئا وناقص الوزن!

وفي ظل هذا التخبّط، والغياب الرقابي عن المادة الرئيسة التي تهمّ المواطن، لم يكن هناك ما يحول من استمرارية سرقة المواطن في قوته ولقمة عيشه، وبصورة علنية، فما كان من أن يكون للصحافة دورها بتسليط الضوء على واقع الرغيف وكشف الحقيقة الغائبة عن ذهن المواطن الذي لا يعرف إلى أين يلجأ ويشكو حاله، وكنا من خلال عملنا في الصحافة نعلم تماماً واقع هذه المشكلة الرئيسة التي، وللأسف، لم يتوقف عندها أغلب زملاء المهنة في المحافظة التي نعود إليها، وكما يبدو أنهم كانوا من أكبر المستفيدين من ذلك الإنتاج السيئ من قبل إدارة المخابز الآلية المنتجة للرغيف في المحافظة التي نعيش فيها بدافع الأتاوات لأغلب الزملاء، وإرضائهم ببعض الأشياء الرمزية التي لا تذكر، أو الاستجابة لبعض متطلباتهم الشخصية على حساب السكوت عما يجري داخل أروقتها وحيطانها المعتمة بحق المواطن، وسرقته جهاراً نهاراً حتى أن المسؤول الرقابي الموظف على ملاكها يعرف بما يحصل، وطالما كان يقوّم الدنيا ويعقدها في حال أنه لم يُلبَ له ما يحتاجه من خدمة لجهة ما، أو لشخصه ما يضطره إلى التسوّل إلى مديرها، وهذا الأخير لم يمانع يوماً في تلبيتها وتقديره رغم كل شيء!


وكنت في أكثر من مرّة ألجأ فيها إلى زيارة المخابز الآلية ليلاً، وأقوم بوزن ربطات الخبز التي لطالما وجدتها ناقصة الوزن.. في حين أن وزن الربطة النظامية كيلو وثمانمائة غرام، أما في الواقع فإن وزنها لا يتجاوز الألف وستمائة غرام، وكنت آخذ أكثر من عينة من الربطات المعدة للبيع للتأكد من وزنها لحسم الإشكال القائم.
وبالفعل لاحظت أن النقص في وزن الربطات كبير، وكبير جداً قياساً بحجمها ومقارنة بكمية الإنتاج اليومي، والتي كانت تصل في بعض الأحيان إلى نحو ثمانية عشر طناً من العجين، ويزيد، وكلما كبر رقم الإنتاج كلما كان فائض العائد مرعباً!
هذه الصورة وحدها دفعتني الى تناول مادة صحافية للجريدة اليومية الرسمية التي أراسلها، وبعد نشر المادة وافتضاح أمر القائمين على المخبز الآلي الرئيسي في المدينة، وما يعرف بمخبز "تشرين" الآلي. طبيعي أن القائمين عليه لم تهدأ سريرتهم، وكل ما يحاولون تبريره هو كيل الاتهام للصحافي، ناشر المادة الصحافية، وأن ما ذكره في تحقيقه الصحافي خال من الصحة تماماً، وكل ما ذكر اتهامات باطلة يُراد منها الإساءة للقطاع العام، وهو يحاول بصورة دائمة كيل التهم للقائمين على هذا المخبز لغاية في نفس يعقوب. هذه حجتهم، وهذا ما يؤولونه باستمرار لي..!!
كانوا يحاولون سدّ الطريق أمامي تماماً، وخلق الذرائع الكفيلة بتجاوز ما سبق أن ذكرته. وقد طلب منهم المحافظ في حينها، بالاتفاق معه، رفع دعوى قضائية أمام محكمة بداية الجزاء، واتهامي بدعوى افتراء.. ويكمن دورنا في تقويم العمل، وإبراز الايجابيات والسلبيات فيه، وهذه مهمة معروفة للصحافة، وليست جديدة، وبالتالي فان أي نية جرمية للإساءة لأية جهة عامة تنتفي واقعياً.
إن ما استندت إليه في نشر المادة الصحافية المتعلقة بالمخابز الآلية، هو جملة من الحقائق التي أبرزتها الحقائق المقدمة للمحكمة، مع ملاحظة ما هو متداول بين جميع الناس، من أن زيادة الكميات المنتجة لأية مخابز في تلك الفترة تقف وراءه أزمة الأعلاف الخانقة التي اضطرت، وكما نعلم، الكثيرين إلى استخدام الخبز علفا، كونه الأرخص، مقارنة بالقمح أو الشعير الذي يفوقه بثلاثة أضعاف!
وبعد قضاء وقت طويل صدر قرار المحكمة بحبسي لمدة ثلاثة أشهر ودفع غرامة مالية وقدرها مئتي ألف ليرة سورية، ما يعادل أربعة آلاف دولار في حينها، ولحسن الحظ أنه تم تشميلي بقرار العفو العام والاكتفاء بإلزامي بدفع الغرامة المالية، بعد أن تم توقيفي لحوالي اثنتي عشرة ساعة..


طبيعي أنَّ ذلك لم يكن مستغرباً في ظلّ القضاء السوري والحكومة التي لم تعرف يوماً الإنصاف. فالقضاء أصدر قراره، وكان قراراً ظالماً بعيداً عن الإنصاف، في الوقت الذي أعفى العاملين في المخابز من جرم السرقة، وباركه القضاة، وهو جرم سرقة المواطن في معيشته، وهذا ما يعني أن المواطن لم يُنصف، ولا يمكن له أن ينصف في ظل قيادة ظالمة مجرمة، هدفها التنكيل بالمواطن السوري وتجريده من أبسط حقوقه، وكل ما تهدف إليه هو سرقة الناس وظلمهم، وهذا لم يكفهم بل وسعوا إلى توجيه الاتهام لي، ومنعي من السفر، ومن الأعمال التي أقوم بها بدلاً من مكافأتي من قبل الجهة التنفيذية في المحافظة المتمثلة بالمحافظ الذي يشاركهم، وكما يبدو من عائدات المخابز، ولإرضاء عمرو وزيد من الناس سرقة المواطن، فضلاً عن غياب دور القضاء الذي وجد لإحقاق الحق ولإنصاف الناس، وليس ليحكم بعيداً عن قوس العدالة على الرغم من قناعة المحكمة بما قرأت من وثائق سبق أن اطلعت عليها، وصور تبرّر استصدار القرار الظالم الذي نال من شخصي وبرّر أفعال المتهمين الذي كان للمحامي العام دوره هو الآخر في الضغط على القضاة والذي يعود إليه مسؤولية تصديق الأحكام الصادرة عنهم والموافقة عليها، وفي ما يمليه عليه القانون وضميره، وما بين يديه من وثائق ومعلومات وحجج تثبت العكس، وهذا ليس بغريب على واقع القضاء ومحاكمه المأسوف عليها في سورية، وما زال وإلى اليوم يعيش في دوّامة البوابات المغلقة واستصدار القرارات الظالمة بحق الناس البسطاء الذين لا حول لهم ولا قوة...

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.