ما بعد سقوط الكومبين (13)

ما بعد سقوط الكومبين (13)

23 يناير 2020
+ الخط -
لم تكن أبلة عزيزة أقل من أم محمود ورانيا في تقدير النزاهة والشرف، ولذلك فقد أثار إعجابها أداء الأستاذ عبد الحكيم ووقوفه في وجه الفاسدين من زملائه داخل الوزارة، مع أنه كان يمكن أن يختار التربيط معهم أو الطرمخة عليهم، بل إنه تجاهل إشارات صريحة تلقاها من بعض أفراد مكتب الوزير بأنه لا يجب أن يقوم بتحبيك المسألة أكثر من اللازم، وأن المطلوب هو لفت نظر المتسببين في الخطأ، ثم "لَمّ المسألة" لكي لا تتسع أكثر من ذلك، وقد قال الأستاذ عبد الحكيم لأبلة عزيزة فيما بعد إن ما دفعه إلى ذلك الموقف كان إعجابه الشديد بجدعنتها ووقوفها بكل قوة أمام مسئولي التموين الذين كان يعرف جيداً قدرتهم على عمل "رُبّاطية"، يمكن أن تذل كبرياء أجدع الجدعان، لكنها لم تستسلم لكل ألاعيبهم وتهديداتهم، ووقفت أمامهم بكل قوة، حتى قبل أن يتضح أنها لم تكن مجرد "بُقّ على الفاضي"، وأنها كانت تمتلك سِكّة لإيصال مظلمتها إلى علية القوم، لكنها أخّرت اللجوء للواسطة على أمل الوصول إلى حقها بالقانون، وحين لم يحدث ذلك، قامت بالتصعيد، لكنها في الوقت نفسه كانت حريصة على أن تؤكد خلال جلسة التحقيق التي عقدها الأستاذ عبد الحكيم أنها ليست راغبة في أذيّة أحد، وأنها لا تطلب أكثر من نيل حقوقها وحقوق جيرانها، ورد اعتبار الذين تعرضوا للظلم، والحرص على ألا يتكرر ظلمهم ثانية.

ومع أن كل ما طلبته أبلة عزيزة نالته، إلا أن الأستاذ عبد الحكيم نجح في إقناع أحد مسئولي مكتب الوزير بضرورة أن يتم التصعيد الإداري ضد من تسببوا في ظلمها، لكي يكونوا عبرة لغيرهم، وحين تم رفع الأمر إلى الوزير، وافق الأمر هوىً في نفسه، لأن وزارة التموين كانت تحتاج إلى فرصة مثل هذه للتضحية ببعض كباش الفداء، لكي يتم تحسين موقف الوزير الذي كان يتعرض للهجوم المستمر من الصحف الحكومية قبل الحزبية، لأن الصحف الحكومية نفسها وجدته كبش فداء مناسب لإثبات ارتفاع سقف الحرية داخلها، ولكي يرد على تلك الحملات الضارية، قرر وزير التموين إحالة مدير مكتب التموين ومدير الرقابة الذي تواطأ معه إلى المحاكمة، وتم تجريسهما في كافة الجرائد، وانتهى الأمر بحبسهما مع وقف التنفيذ وتغريمهما غرامة كبيرة وعزلهما الوظيفي.

أدت تداعيات تلك القرارات إلى أن تتلقى أبلة عزيزة وإخوتها تهديدات مستمرة بالانتقام من بعض أقارب كبشَي الفداء، ليخرج الأمر فوراً من دائرة وزارة التموين وإجراءاتها الرسمية، ويتحول إلى صراع عصبيات ومناطق، أجادت أبلة عزيزة وإخوتها حسمه بتوظيف رصيدهم العائلي الممتد في محافظة قنا، والتي تصادف أن أحد المسئولين الذين تمت التضحية بهما كان منها، ليتدخل في الأمر كبار لا تعرفهم أبلة عزيزة بشكل شخصي، لكنهم اعتبروا تلقيها لتلك التهديدات أمراً موجهاً لهم شخصياً، وبفضل تدخلهم الحاسم والغاضب انتهت تلك التهديدات على ما فيش.


كان إعلان تلك التهديدات قد استفز الأستاذ عبد الحكيم، ودفعه لإعلان تضامنه مع أبلة عزيزة وإخوتها، وهو تضامن أعلنه في زيارة قام بها إلى بيتها، بدعوة منها ومن إخوتها الراغبين في شكره على وقوفه إلى جوارهم، وهناك استقبله أهلها وجيرانها ومعارفهم بوصفه بطلاً شعبياً، ودوّت الزغاريد فور وصوله، ولم يكن ينقصه إلا أن يحضر الطبل والمزمار للترحيب به، ومن يدي أبلة عزيزة أكل الأستاذ عبد الحكيم طعاماً بيتياً شهياً كان قد افتقده منذ أن دخلت زوجته في دائرة المرض اللعين، وحين عرفت أبلة عزيزة بقصة خسارة زوجته لصراعها مع المرض، لم تقو على الإمساك بدموعها، وقالت فيه قصائد شعر حين عرفت بتحمله مسئولية علاج زوجته وتربية ولديه بعد رحيلها، دون أن تفقده المسئوليات الجسام خوفه من الله واجتنابه للمال الحرام، ولم تكن أبلة عزيزة تتصور أن تفاصيل تلك الزيارة ستُعلِّم معه طويلاً، وأن الأستاذ عبد الحكيم سيفكر فيها كثيراً، ليس فقط كسيدة جدعة شاركته في رفض الفساد والظلم، ولكن كشريكة حياة يمكن أن تسد الفراغ الذي نتج عن رحيل زوجته المحزن والمنتظر، وأن الانطباع القوي الذي تركته لديه، سيدفعه إلى أن تكون زيارته التالية إلى شبرا الخيمة، إلى شقة أخيها الأكبر، لكي يطلب يدها على سنة الله ورسوله.

كانت أبلة عزيزة تعرف أن تلك ربما كانت فرصتها الأخيرة للزواج، بعد سلسلة طويلة من رفض الراغبين في الارتباط بها، والذين كان بعضهم طامعاً فيها كسيدة "كسّيبة"، وبعضهم كارهاً لأن تستمر في عملها، في حين لم ير الأستاذ عبد الحكيم وهو الموظف الأبّهة في عملها أمراً يقلل منها، بل أشاد بما رآه من صنع يديها خلال زيارته إلى بيتها، ووصفها بأنها "فنانة عالمية"، بل وأخذ يعلق على تفاصيل بعض ما رآه من شغلها، بشكل أوحى لها أن لديه ذائقة فنية، وهو ما لم يكن صحيحاً على الإطلاق، فقد دفعه إلى تلك التعليقات ذكاؤه العاطفي الذي جعله يدرك ارتباطها بشغلها، والذي أدرك أنه في نهاية المطاف لن يجعلها عبئاً مادياً عليه، صحيح أنه لم يكن ينوي أن يلجأ إليها ولو حتى في الشديد القوي، لكنه اعتبر أن الارتباط بسيدة كسّيبة وصاحبة صنعة سيكون تغييراً مناسباً يحتاجه في تلك المرحلة من عمره، وبالطبع لم تكن تعرف أبلة عزيزة شيئاً عن تلك الأفكار التي عرفتها منه فيما بعد حين احتدم الخلاف بينهما، ووجدت نفسي وسيطاً لحله، لذلك تأثرت بتعليقاته الفنية وحماسه لعملها، فقد كانت من النوع الذي لا يستطيع الاستغناء عن العمل المنتظم، "أنا لو قعدت من غير شغل أموت"، كانت تكرر هذه العبارة دائماً، وتتبعها بشرح مستفيض عن محاسن العمل الذي لم يجعله الله عبادة من فراغ، وحين أضافت إلى ذلك أن الأستاذ عبد الحكيم كان لطيف الشكل، لم يكن نجم سينما يعني، لكنه كان أفضل ما يمكن الحصول عليه في مثل سنه، وكانت صحته حلوة، لأنه كان يراعيها دائماً بالمشي الكثير والأكل المنضبط، فقد وجدت نفسها بعد أكثر من صلاة استخارة، تصمّ أذنيها عن آراء أغلب أقاربها الرافضة لفكرة الزواج من رجل لديه ولدان طول بعرض، لن تكون مهمة التعامل معهما سهلة، معتبرة أن ذلك يشكل ميزة لا عيباً، لأنه سيجعل وطأة الزواج أخف على قلبها، خاصة أن الأستاذ عبد الحكيم لم يجد مشكلة في القبول بشرطها أن تتحول شقتها في مساكن العمال إلى شقة الزوجية، لأنها لا تستطيع مفارقة إخوتها أبداً، ولم تجد مشكلة في القبول بشرطه عليها أن يبيت مع أولاده ثلاثة أيام كل أسبوع، معتبرة أن شرطه ذلك تأكيد إضافي على كونه رجلاً جدعاً، سيخاف الله فيها ويعاملها بما يرضيه، وكان ذلك كافياً لكي تتغاضى عن بقية عيوبه.

كان محمود خلال مرحلة التوتر السابقة التي كان يعيشها مع زوجة أبيه، قد قال لي إنها تعمل "خياطة"، وبرغم أنه لم يكن يقول ذلك مثل أخته رانيا، بشكل يحمل استخفافاً بمهنة الخياطة وتقليلاً من ممارسيها، خصوصاً بعد أن قلت له إن جدتي رحمها الله كانت خياطة متميزة، وأن صوت ماكينة خياطتها يحتل موقعاً مميزاً في وجداني وذاكرتي السمعية. وحين تآلف محمود مع أبلة عزيزة بعد وقفتها المشرفة قُصاد أبيه، ثم وقع في غرامها، أصر على أن يصحح لي المعلومة السابقة، فقال لي إن أبلة عزيزة ليست خياطة، "مع أن الخياطة مهنة عظيمة"، وإنما هي مُطرّزة فساتين أفراح، وأنها تقوم بالعمل منذ سنوات طويلة مع مصمم أزياء شهير، لديه أتيليه كبير في الزمالك، وأنه بعد أن يقوم بإنجاز جسم الفستان، يعطيه لها فتقوم بتطريزه بالمواد التي يوفرها لها، وأنها كانت في البداية تقوم بتنفيذ التصميم الذي يعطيه لها بالضبط، لكنها مع مرور الوقت وزيادة الخبرة، أصبحت تشارك المصمم في اقتراحات تطريز الفستان، وأصبح يعطيها حرية أكبر في تنفيذ ما تريده، مما جعلها تحقق سمعة طيبة في مجال عملها، حتى أنها تلقت عروضاً بالعمل مع أتيليهات منافسة، لكنها ظلت مخلصة لمصمم الأزياء الذي عملت معه منذ كانت "صبية خياطة" قبل أكثر من عشرين عاماً، لأنها لم تنس كيف تعلمت منه الكثير عن فساتين السهرة والزفاف وكافة المناسبات السعيدة، ولذلك أصبح يتعامل معها بوصفها "عِشرة عمر" ويتساهل معها منذ تزوجت وأنجبت، فلم يعد يشترط حضورها اليومي للعمل في الأتيليه، بل صار يسمح لها بإنجاز عملها في البيت، ومع أن ذلك كان يتيح لها فرصة أن تقوم بعمل سبابيب ومرمّات خاصة في البيت، إلا أنها كانت ترفض ذلك بشكل قاطع، وتقول إن وقتها المخصص للعمل من حق الرجل الذي يكرمها دائماً في أجرها ويعاملها بما يرضي الله، لكنها لم تكن تبخل على جيرانها ومعارفها بالنصح والمشورة وأحياناً ببعض التدخل اليدوي، ليتعامل معها الجميع بوصفها خبيرة الأزياء الأولى في البلوكّ الذي تسكنه في مساكن العمال بشبرا الخيمة، ثم في البلوكّات المجاورة له.

كانت أبلة عزيزة قد ورثت علاقتها بالأقمشة من أبيها وأمها، فقد كان والدها عاملاً ماهراً في أحد مصانع النسيج الشهيرة بشبرا الخيمة، وكانت أمها خياطة بارعة يشهد الجميع بفنها في "رفي" الملابس الممزقة، بشكل متقن يعجز عنه أي "رفّا" صاحب صيت، لكن والدها كان يغضب من تزايد طلبات الجيران والمعارف على الأم لكي تقوم برفي ملابسهم المهترئة، خصوصاً حين أصبح البعض يجاملها بالهدايا، حين ترفض أخذ مقابل مادي منهم، وكان يعتبر ذلك تقليلاً من شأنه، لأن هناك فرقاً بين أن تقوم زوجته ست البيت بـ "رفي" ملابس أبنائها وأقاربها، وبين أن تحول ذلك إلى شبه مهنة تشغلها عن مهامها الأسرية، خاصة وأنه بدأ يسمع منها كثيراً ولو بصيغة المزاح رغبتها في فتح محل رفّا سيكون فريداً من نوعه في المنطقة، وبعد أن زادت الخناقات بين الاثنين بسبب ذلك الموضوع، قررت الأم أن تأخذ زوجها على قد عقله، وتمارس مزاجها في رفي الملابس سراً، وإخفاء كل ما له علاقة بالموضوع قبل عودته إلى البيت بعد انتهاء ورديته، لتكتشف أن عملها تحت ضغط الوقت والنكد، زاد من مهارتها جداً، ودفعها إلى مشاركة عزيزة في ذلك المزاج، لأنها لمست منها اهتماماً به أكثر من بقية بناتها، ومع الوقت قررت أبلة عزيزة أن التعامل مع الأقمشة لن يكون مزاجاً شخصياً فقط، بل سيكون مهنتها وهوايتها، وكانت تستعد لمواجهة عاصفة مع الأب الذي كانت تعلم رفضه لإدخالها في مدرسة فنية لتعلم الخياطة والتفصيل، فقد كان يحلم أن يراها دكتورة قد الدنيا، لكن الموت أعفاهما من مواجهة كانت ستؤلمها، لأنها كانت تحب أباها، وتعرف طيبته الشديدة برغم ملامحه المتجهمة ولسانه الكرباجي.


حين مات الأب فجأة بأزمة قلبية حادة، وتعثرت ماديات العائلة، لم يعد العمل في الأزياء ومع الأقمشة رفاهية أو ترفاً، بل صار السبيل المؤكد لإنقاذ العائلة، فأصبحت الأم تمارس نشاطها في رفي الملابس بشكل علني، ولم تعد تجد حرجاً في تقييم الجهد الذي ستبذله في إصلاح قطعة الملابس التي تأتيها، لتطلب محله مقابلاً يتناسب مع طاقة الزبون وعلاقتها به، في الوقت الذي جمعت فيه عزيزة بين دراسة الخياطة والتفصيل، وبين بدء العمل مع مصمم الأزياء الذي دلها على طريقه أحد أصدقاء أبيها الملتاعين على فراقه، لكنها حرصت على أن تحقق وصية أبيها بالاستمرار في التعليم، ولكن في أشقائها الذين لم تقصر في تلبية كل مطالبهم، مقابل أن يتفوقوا في دراستهم ويحققوا حلم الأب بأن يكون من ذريته دكتور أو دكتورة قد الدنيا، لكن حظهم مع التعليم لم يكن سعيداً، فقنعوا منه بأدنى درجاته التي تمنحهم شهادات تكفل لهم المرمغة في تراب الميري.

قبل أن أدخل إلى شقة أبلة عزيزة بصحبة محمود ورانيا، كنت أتصور أنني سأجدها شقة كبيرة الحجم، بحيث تتسع لمقام الأستاذ عبد الحكيم ومحمود ورانيا، بالإضافة إلى زوجة أبيه وأخته الصغرى، لكنني فوجئت بها شقة صغيرة من حجرتين وصالة، وفوجئت أكثر حين عرفت أن الغرفة الثانية في الشقة لم تكن غرفة ضيوف مخصصة لمبيت محمود ورانيا حين يأتيان، فهي مشغولة بالفعل بثلاثة أشخاص، هم أبلة مجيدة أخت أبلة عزيزة الصغرى، والتي كانت قد أصيبت بأزمة نفسية منذ سنوات، بعد أن باظ مشروع زواج مبكر لها، فدخلت في زحليقة التعامل المتخلف مع المصابين بالأزمات النفسية، من شيوخ إلى "فاكّي أعمال" إلى دكاترة مخ وأعصاب، وتفاقم الأمر حين أصبحت تصاب بنوبات تشنج حادة، لم يتأكد أحد هل كانت نوبات صرع أم مجرد تشنجات عصبية، ولم تستقر حالتها تلك إلا بعد أن تحسنت إمكانيات أبلة عزيزة، وتمكنت من عرضها على طبيب نفسي بارع، منحها الدواء المناسب لحالتها التي تحسنت، لكنها لم تعد "زي الأول" طبقاً للتعبير الذي يردده الجميع مشيرين إلى أيامها الخوالي المليئة بالبهجة والضحك والرقص والغناء، وهي أيام تظهر منها لمحات جميلة حين يروق مزاجها ويصفو، لكنها سرعان ما تنكفئ بعد ذلك على ذاتها، وتعود إلى الانعزال في غرفتها للصلاة وقراءة القرآن والاستماع إليه، والاكتفاء بأداء ما هو مطلوب منها من مهام البيت، وقد كان من حسن حظي أن أراها أول مرة وهي في حالتها المبهجة، ولذلك أدركت الفرق الكبير حين رأيتها بعد ذلك في حالات مختلفة.

يشترك مع أبلة مجيدة في غرفتها حسن وسلوى الذين تركتهما أختها الأكبر، التي توفاها الله هي وزوجها في حادث سير وقع قبل سنوات خلال سفرهما إلى الصعيد، ونجا منه الطفلان بمعجزة، وبعدها قامت أبلة عزيزة بتربيتهما أحسن تربية، وأنفقت عليهما حتى تخرج حسن بالزقّ والخناق من معهد فني صناعي، لكنه لم يكن ماهراً في العمل اليدوي ولا محباً له، فتعرض للفصل من أكثر من مصنع من المصانع المختلفة الموجودة في شبرا الخيمة وما حولها، وانتهى به الأمر ليعمل حارس أمن في مصنع كريستال عصفور، ليجد نفسه في بدلة الأمن الزرقاء التي جعلته يشعر بالتحقق، وساعدته على أن يستمتع بمباهج الحياة البسيطة دون أن يحمل للمستقبل هماً ولا أملاً، أما أخته سلوى فقد عوّضت خيبة أمل أبلة عزيزة في أخيها، وتفوقت في كافة مراحل دراستها، حتى التحقت بكلية الصيدلة، واستحقت لقب الدكتورة منذ أول يوم وضعت قدمها في كلية الصيدلة، كممثلة لعائلتها في دنيا الطب، ومنفذة لوصية جدها الذي آن بفضلها لعظامه أن تهدأ في قبره، أو هكذا تصور الجميع.

شعرت في الليلة الأولى التي قضيتها في شقة أبلة عزيزة أنني أعيش داخل حلقة من المسلسلات التلفزيونية الطيبة التي تمتلئ بشخصيات خيالية الجدعنة، يختلقها مؤلفو الدراما رغبة في "الحفاظ على قيم الأسرة المصرية الأصيلة"، أو لأنهم يدركون بشاعة الواقع الاجتماعي، فيحاولون تخفيفها بمثل تلك الشخصيات التي تجعل المشاهدين من أمثالي يخجلون من نفسهم لاستغراقهم في الأنانية والتمحور حول الذات، ويتذكرون أن الإنسان يمكن أن يجد سعادته في إنكار ذاته والتضحية من أجل الآخرين، وحينها لن تبخل عليه عدالة السماء بمنحه نصيبه المستحق من السعادة، ويدركون أن البيوت تصبح ضيقة إلى حد كريه حين تضيق قلوب ساكنيها، وتصبح أكثر رحابة وسعة مهما كانت صغيرة، حين تصفو النفوس وتمتلئ بالخير.

لكن، ولأن الحياة ليست مسلسلاً تلفزيونياً يسعى إلى منح مشاهديه الراحة والسكينة، فقد أدركت في زياراتي التالية إلى تلك الشقة الجميلة، أن حياة أبلة عزيزة لا يمكن أن تدوم هانئة وسعيدة، لكنني أدركت أيضاً أنني سأتعلم من تلك السيدة أكثر مما كنت أظن، خصوصاً حين أصبحت شقتها واحدة من ملاذاتي الآمنة في القاهرة، خصوصاً بعد أن سقط الكومبين، وحدث ما حدث.

.....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.