درس جاهلي (7)

درس جاهلي (7)

02 يناير 2020
+ الخط -
في رواية لوكالة أنباء، شغفت نفس جوشن الكلابي بالشعر، وطمحت نفسه أن يُنادى بالشاعر، وأن يُدعى إلى الحفلات والمؤتمرات واللقاءات الجماهيرية لينشدهم أشعاره، ويسمع الآهات والزفرات والتأوهات مع كل صدر وعجز يخرج من جوفه. لم يكن أبوه من هواة الشعر، كان يريده أن يخلفه في مهنته، وأن يدير تجارته وينمي ثروته، ونجم عن ذلك نحول جسد جوشن، وانقباضه عن الناس ودخل في حالة اكتئاب مزمن.


رق والده لحاله وخشي أن تتدهور صحته، وجلس إلى ابنه والدموع تطفر من عينيه، ثم ضمه ضمًّا شديدًا، وهمس له: يا بني! قل ما شئت من الشعر وانطق بما أحببت. في هذه اللحظات، كان يفترض أن يطير جوشن فرحًا، وأن يشكر أباه على موقفه ورأفته بحالته، لكن جوشن لم يفعل من ذلك شيئًا، بل زفر زفرة طويلة وأطرق مليًّا، ثم قال بنبرة حسرة وأسى: هيهات! حال الجريضُ دون القريض.

أما رواية أخرى، فتزعم أن عَبيد بن الأبرص - بفتح العين - وفد على النعمان بن المنذر، وقد سمع النعمان غير مرةٍ شعر عبيد وأعجب به، لكن ازدحام جدول عمل النعمان حال دون لقائهما، ولأن عبيد بن الأبرص رجل سيئ الحظ؛ فقد ورد على النعمان في يوم بؤسه!

آمن النعمان بالحظ النكد، وخصص يومًا يقتل فيه من يقابله، ولم يتابع عبيد الأخبار مدة طويلة؛ فلم يبلغه خبر يوم بؤس النعمان. خرج عبيد والأماني العريضة تملأ رئتيه، ويمني نفسه بأعطيات النعمان، لا سيَّما وأن الفضائيات نقلت مراسم إهداء النعمان النوق الحُمر لعنترة بن أبي شداد.

في دواخل نفسه، يؤمن عبيد أنه ليس بأقل من عنترة الفوارس شعرًا؛ فإن يكن عنترة لا يبارى في الفروسية، وإن تكن معلقته شاعت وذاعت في العرب، فإن عبيد هو الآخر من أصحاب المعلقات، وله أن يطالب بامتيازات أهل طبقته وأرباب مهنته.

بين يدي النعمان، تبددت أحلام عبيد وأوهامه، وأدرك أنه قليل البخت، ولم تمنع حالة النعمان المزاجية السوداوية من أن يعترف لعبيد بشاعريته، وكاد يأخذ معه صورة سيلفي لولا هيبة الملك ومقتضيات اليوم النكد! ولحظة علم أن حظه التعيس اقتاده في يوم بؤس النعمان، بل إن عبيد أول من جرت عليه سُنَّة النعمان الغريبة!

سأله النعمان بلهجة الملوم: ماذا جاء بك يا عبيد؟ هلا كان الذبح لغيرك؟ أجاب وهو لا يلوي على شيء: "أتتكَ بحائنٍ رجلاه"؛ فأرسلها مثلا، لم يعر عبيد إعجاب النعمان بشعره أيَّ اهتمام؛ فما قيمة التكريم والسياف على رأسك، وقد صدر الحكم عليك -لا قدر الله عزيزي القارئ- بالإعدام.

لم يفهم عبيد مبعث تصريح النعمان، وحدث نفسه في الوقت الضائع: ما قيمة هذا الإعجاب؟ ثم عطف على نفسه وهمس لها: أليس ممكنًا أن يصفح عني لقاء إعجابه هذا؟ ثم تنهد وهو يستسلم لحظه العاثر، وتمتم في نفسه: الكلام رخيص! يعجبك شعري يا نعمان فتقتلني؟! أفكٍ لك ولإعجابك، ليت أمي لم تلدني، وليتني لم أقصد رفدك، ويح عبيد لم يتفطن لقول الأول "وتقطعُ أعناقَ الرِّجالِ المطامعُ".

النعمان وإن كان في الحيرة (العراق)، لكنَّ على قلبه مراوحَ، انتقل بحالته النفسية إلى "اللالا لاند"، لم يقدِّر ظرف عبيد، وبكل أريحية وطول بالٍ وبرود أعصابٍ -ولا جراح بريطاني- لا يُحسد عليه، التفت إلى الحزين المنكوب المنكود قائلًا: أنشدني! فقد كان يعجبني شعرك. لا تتخيل بركان غضب عبيد لحظتها، وقد اندفعت حممه في أنحاء جسمه وفاقت فيزوف في غضبته، وكاد يحرق النعمان والحيرة عن بكرة أبيها، لكنه تصنَّع الهدوء وتحامل على نفسه، لعل النعمان يعفو عنه قبل صافرة النهاية.

قال عبيد بصوت متحشرج ونفسٍ تتداعى: "حال الجريضُ دونَ القريض، وبلغَ الحِزامُ الطِبيين"؛ فأرسلها مثلًا إلى يوم الناس هذا، وألحَّ النعمان في طلبه من عبيد، يريد أن ينشده مُعلَّقته الخالدة، قال: أنشدني "أقفرَ من أهلِهِ مَلحُوبُ/فالقُطَبِيَّاتُ فالذَّنوبُ"؛ فقاطعه عبيد قائلًا: بل قل "أقفرَ من أهله عَبيدُ/فاليومَ لا يُبدي ولا يُعيدُ"، وازورّ عنه النعمان مُغضبًا، وتناولت حاشية النعمان عبيدًا باللوم والتقريع: كيف ترفض طلب الملك؟ ولسان حال بعضهم: "أنت ميت ميت... ليه بقى متموتش بعد ما تفرفش جلالة الملك النعمان؟"، ووبخوه قائلين: يا عبيد! ما أشد جزعك من الموت!

أصر عبيد على موقفه، وإزاء محاولاتهم السخيفة أن يُنشد النعمان، وأن يكون كالديك يرقص بينهم مذبوحًا من الألم، قال لهم بنبرة لا تراجع فيها ولا مهادنة: "لن يحمل همَّك من ليس معك"؛ فأرسلها مثلًا آخر في يوم مقتله، وبعد أخذٍ ورد سأله النعمان أن يختار الميتة التي يفضلها، وعرض عليه أن يقطع له الأكحل أو الأبجل أو الوريد. لم يتردد عبيد في جوابه، وقال "ثلاثٌ كسحاباتِ عاد"؛ فأرسلها مثلًا للرَّجل يُخيَّر بين أمورٍ نتيجتها واحدة.

مر شريط ذكريات عبيد أمام عينيه، ها هو يذكر أنه قال الشعر كبيرًا، وكيف أنهم تهامسوا به وأن شيطانًا يُدعى هبيد يلهمه الشعر، حتى قالوا "لولا هبيد ما كان عبيد"، ويرقب نفسه في بلاط حجر بن الحارث ملك كندة، ويعض على إصبعه إذ شتان بين ملك كندة والنعمان. يحدِّثُ نفسه: لو يسمعني النعمان ويصفح عني مثلما صفح حجر بن الحارث عن بن أسدٍ بعدما سمع قصيدةً أنشدتها بين يديه، ومطلعها (يا عينُ فابكي ما بني/ أسدٍ فهم أهل الندامهْ)، وقد قتل بنو أسد حجر بن الحارث، لكن من يقتل النعمان الآن ويخلصني من قبضته؟!

وفي اليوم المشؤوم، قُتِلَ عبيد -وهو ابن 220 سنة- بأمر النعمان بن المنذر، وتناقلت الصحف نبأ تمرد عبيد على السلطة، وأنه يحمل مخططات تدميرية وأجندات خارجية وطبق مهلبية، وسجل المواطنون الشرفاء استهجانهم عصيان عبيد الأوامر الملكية، وسخطوا لختامه حياته منسلخًا عن الطاعة التامة والعمياء للملك النعمان، ولم يراعِ الحالة النفسية والمزاحية للملك، ولم يُدخل السرور -وإن كان سيُذبح بعد قليل- على النعمان في يوم بؤسه ونكده.

والجريضُ في اللغة أي الغُصَّة، من الفعل جرض/يجرض كقولك فرح/يفرح، ويقال جَرَضَ فلانٌ بريقه إذا ابتلعه بعناء ومشقة، والجريض الشخص المهموم مثل جوشن الكلابي وعبيد بن الأبرص، والجريض اختلاف الفكين عن الموت وفي ذلك يقول (كأن الفتى لم يَغْنَ في الناس ليلةً/إذا اختلف اللَّحْيان عند الجَرِيض). عند المبالغة تقول العرب "فلانٌ غُصَّ بريقه"، وقريبٌ منه قول الشاعر (من غُصَّ داوى بشرب الماء غُصته/ فكيفَ يصنعُ من قد غُصَّ بالماء)، أما القريض فهو الشعر، وفعله قرض/ يقرِض/ قرضًا؛ فهو قارض والمفعول مقروض، وقرض الشعر أي نظمه وقاله.

معنى المثل "حال الجريضُ دون القريض" أي شغلني عن قول الشعر من الشواغل ما لا طاقة لي برده، ويضربونه مثلًا للأمر يقف دونه عائق. في العامية المصرية يقال "قال له نام لمَّا أدبحك، قال له ده شيء يطير النوم م العين"؛ فإن التهديد يشغل عن النوم وما يقتضيه من هدوءٍ وسكينة وراحة نفس.

لم يختلف النعمان في حديثه إلى عبيد عن حوار القط للفأر، وهو من أمثالنا المصرية العامية كذلك؛ وموجز خبرهما أنه "فار وقع م السقف، قط قال له اسم الله عليك؛ الفار قال له: يا عم سيبني وخلي العفاريت تركبني". تمنى عبيد لو تركه النعمان وإن لم يعطه قليلًا أو كثيرًا، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يظفر به، وربما كان هلاكُ المرء في أمنيته.

لم ينته الأمر عند هذا الحد العبثي؛ فبعض القنوات الفضائية يطيب لها أن تصب الزيت على النار، وفتحت ملفات قديمها مفادها لماذا تتسلى السلطة حتى في أحلك ظروف الشعوب المقهورة؟ وكيف طلب النعمان إلى عبيد أن ينشده وهو بين النطع والسيف؟ ولماذا لم يرحم النعمان عبيد في علو سنه؟ وماذا أكل النعمان بعدما تلذذ برؤية دماء عبيد تراق؟ وإن كانت السلطة أعدمت عبيد بن الأبرص جهارًا نهارًا؛ فماذا عن آلاف من المسجونين والمعذبين ممن لا يملكون حيلة ولا يهتدون سبيلًا ولم يصلنا خبرهم؟!

دندندت صحيفة مشاغبة تناوئ السلطة بنشر قضية مماثلة، قضية هزت الرأي العام هزاتٍ أعنف من هزات جوهرة وصافينار وجوفانا أنتونيلي وشاكيرا وسلمى حايك؛ إنها قضية اغتيال الشنفرى. ووجه الشبه بين الشنفرى وعبيد أنهما شاعران، ولهما في الدنيا خبرة وحكمة انعكست في شعرهم -وإن كانت أقوى عند الشنفرى- وأنهما قُتلا وإن اختلف السبب؛ فالشنفرى واحدٌ من صعاليك العرب المعدودين، وقد تحلَّق حوله بني سلامان ليُجهزوا عليه، وكان قد أزهق أرواح 99 نفسًا منهم، وقالوا له وهو يلفظُ أنفاسه الآخرة: أنشدِ لنا!

رفض الشنفرى أن ينشدهم ولو بيتًا واحدًا من لاميته -لامية العرب الشهيرة- وقال لهم "إنما النشيد على المسرة"؛ فأرسلها مثلًا. قُتِل الشنفرى ولم تزل كلماته ترن في الأسماع، وقد كان الخلفاء والوجهاء يمنعون أبناءهم من حفظ لاميته؛ لأنها تحثهم على السفر والضرب في الأرض وابتناء المكارم، وأرادوا لأبنائهم أن يساكنوهم ولا يبتعدوا عن فنائهم، وإن عاشوا حياتهم خاملين.

تزعم رواية -لم أستوثق منها- أن عبيد بن الأبرص رفع قضية عام 1994، اختصم فيها دارا للكتاب، إذ نشرت ضمن سلسلة "شعراؤنا" ديوان عبيد بن الأبرص، وضبطت اسمه في عنوان الكتاب بضم عين عبيد، وقرأ الرجل الكتاب وهاله أن يرى اسمه مكتوبًا على نحوٍ غير صحيح، لكنه صبَّر نفسه وقال لعله خطأ مطبعي أو سهو أو تصحيف غير مقصود، لكنه لما أتى على الكتاب وجد العجب العجاب، إذ أصر شارح الكتاب، على ضم العين في الاسم دون وجه حق؛ فاغتاظ عَبيد بن الأبرص ورفع قضية مستعجلة، وينتظر الحكم فيها ولو بعد حين.

دلالات