أحلام مبكرة

أحلام مبكرة

02 يناير 2020
+ الخط -
كنت وما زلت هاوياً ومحبّاً للصحافة التي أخذت مني الكثير من الوقت، فضلاً عن توقي إلى الترّحال والسفر، منذ الصغر، فانتقلتُ من مكان إلى آخر بحثاً عن الرزق، حيث زرت العديد من دول العالم، وحطّت قدماي في الولايات المتحدة الأميركية، البلد الاقتصادي العملاق، ومنها رست سفينتي في النمسا، وفي مدينة "فيينا" على وجه التحقيق، ولا سيما أنَّها تشتمل على كثير من المباني التاريخية والمعالم الحضارية، بالإضافة إلى أماكن التسوّق وطبيعة الحياة الساحرة فيها.

نشاطي الصحافي واسع، حيث كتبت في عددٍ من الصحف المحليّة السوريّة، والمجلات العربية التي تصدر خارجها، فضلاً عن المواقع الإلكترونية - وما أكثرها - كذلك عملت محرراً في قسم التحقيقات في صحيفة "الشرق" القطرية، وتناولت العديد من القضايا الخدمية والاجتماعية والإنسانية المهمّة، وفي الوقت الحالي أكتب بصورةٍ مستمرة مدونات في موقع "العربي الجديد"، فضلاً عن صحيفة "الراية" القطرية، وغيرها.

وتلازمت علاقتي المتينة ببلاط صاحبة الجلالة - الصحافة - وحبّي للسفر والترحال الذي استهواني منذ نعومة أظفاري، أثارا فيَّ نوازع كثيرة، ما جعلني أكثر التصاقاً بالواقع والتشبّث فيه، وإن شابه الكثير من المنغّصات، والحراكات غير الوجدانية التي أرادها البعض أن تكون راكدة، موتورة ومتثاقلة، علاوة على تقلّبات وتدخلات المحيط الذي كان له أكبر الأثر في تنقلاتي، أضف إلى ذلك ظهور بعض الصور السلبية التي لطالما كانت تُفضي إلى أسرار دفينة، دفعت بي إلى الامتثال لمجمل الرحلات التي قطعتها، متنقلاً بالطائرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، وسجلت ما ينوف على مائتين وعشرين ألف ميل، بهدف الاطلاع على واقع الحياة في بلاد العمّ سام.


فالاغتراب يُنمّي الإدراك، ويُثري الحواس، وينير طريق المعرفة، بما معناه أنّه مدرسة الحياة الجديدة. وسبق أن عشت فترة من التأمّل والرجاء، وكان الأمل مجرد حلم وردي، إلّا أنَّ هذا الحلم تحوّل إلى واقع معيش، وانعكس بصورةٍ متتالية إلى حيثيات متباعدة، وإن رافقه بعض الإيهام والأحلام، إلّا أنَّ حلمي الأول والأخير هو رغبتي في تحقيق الكثير من التجليات، وأوّلها السفر إلى حيث أحب وأشتهي.

نعم، هو السفر بعينه الذي عَرفَ طريقه إلى قلبي أوّل مرةٍ في مطلع عام 1982 عندما كنت طالباً في المرحلة الإعدادية، على وجه التحقيق. من هنا كانت البداية، وأعقبتها بعد ذلك أهداف مرحلية متعددة، وهكذا دواليك إلى أن استقرّ بي المقام، بعد تنقلات متباعدة إلى ولايات ومدن مختلفة، في الولايات المتحدة، فضلاً عن زياراتي لدول أخرى.

وبعد عدّة محاولات، كلّها باءت بالفشل، نجحت آخرها في صيف عام 1999 في الحصول على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، بعد معاناة مريرة كنت قد تعرضت لها نتيجة السفر المتواصل من مدينتي الرّقّة، التي أعيش فيها، باتجاه العاصمة دمشق التي تبعد عنها نحو 550 كم عن طريق (الرّقة - السلمية، السلمية - حمص، حمص - دمشق). ومع ساعات الصباح الأولى، وبعد معاناة نتيجة السفر المتواصل وبعد المسافة بين المدينة التي أقيم ودمشق التي تحتضن بطبيعة الحال السفارات العربية والأجنبية، كنت في كل مرة أراجع فيها السفارة الأميركية، مع أوّل النهار، وهذا هو برنامجها المتعارف عليه، وكنت مع عدد ليس بالقليل من الناس أقف أمام ساحتها للحصول على تأشيرة سياحية، أو زيارة، أو بغرض المعالجة الصحية حيث كانوا يفرضون علينا شروطاً تعجيزية، ورغم ذلك فقد فاز عدد من الزائرين للسفارة بتأشيرة سفر إلى بلاد العم سام.

وإن باءت أغلب محاولاتي المستمرة بالفشل، إلّا أنَّ واحدة منها في نهاية المطاف نجحت نتيجة الإصرار والمتابعة والرغبة، وفي إحدى تلك المحاولات، ونتيجة الإقبال الشديد على السفارة بهدف الحصول على تأشيرتها، كنت قد وقفت أمام بابها في الساعة الواحدة ليلاً، وأمضينا ليلةً عصيبة، ومع ساعات الصباح الأولى بدأنا بالدخول إلى بهوها الفسيح لأخذ الدور بنسق معين، ولإجراء مقابلة شفهية لجهة الحصول على التأشيرة، ولم أتمكن من مقابلة القنصل المعني الذي يعود إليه أمر الموافقة حتى الساعة الحادية عشرة صباحاً، وبعد طرح عددٍ من الأسئلة، والأسباب الداعية إلى السفر، والاطلاع على الوثائق التي أحضرتها معي، تشكلت لدى القنصل الذي يُجري المقابلة القناعة التامّة بذلك، وكان هناك حاجز زجاجي يفصل بيني وبينه في أثناء المقابلة، وفي أقصاها لا تدوم أكثر من عشر دقائق.

وإذا أراد المراجع الحصول على التأشيرة السياحية يُطلب منه إبراز ما يُثبت كشف حساب بنكي، إضافة إلى وثيقة زواج "رابط اجتماعي"، ويفضل من يكون لديه أطفال، فضلاً عن إثبات ملكية عقارية أو سيارة وغير ذلك، والأهم من كل ذلك إقناع المسؤول بأن الزيارة للولايات المتحدة الأميركية قصيرة. كل هذه الاشتراطات تدفع بها إلى المسؤول المعنيّ لعل وعسى يأخذ بها، وبعدها يقرر مدى موافقته من عدمها، مع انتظار نحو خمسة وأربعين يوماً، في حال الموافقة، لجهة أخذ الموافقة الأمنية من جهات رسمية أميركية.
وبعد كل هذه المعاناة، وافق القنصل على منحي تأشيرة السفر، وألصقت على جواز سفري خلال نصف ساعة من الانتظار داخل بهو السفارة، على ألّا تتجاوز زياراتي لها ثلاثة أشهر، وأمضيت بالفعل زيارتي، وقضيت الفترة المحددة، على الرغم من أن ضابط الجوازات في مطار "شيكاغو" منحني حق الإقامة لمدة ستة أشهر، إلّا أنني التزمت الفترة التي أكدت فيها عليّ موظفة السفارة بالبقاء هناك ضمن الفترة الممنوحة، وهي شهر واحد فقط، وبالفعل عدت أدراج الرياح إلى بلدي، ملتزماً الفترة المحددة.

فالحزن يظل طاغياً على جوّ الفرح الذي كان يرافقني خلال الفترة التي أمضيتها في الولايات المتحدة، وقد تكون في لحظة ما مفقودة نتيجة الأسباب غير الواضحة المعالم التي طالما وقفت حجر عثرة في طريقي، وإن كانت خفيّة حتى على صاحبها، وعلى الشخص الذي عانى مرارتها وقسوتها، بغضّ النظر عن تجليات الواقع الذي شاهدته، ولمسته هناك.

ففي "كاليفورنيا"، التي تقع في أقصى الغرب الأميركي، حيث يُثير حفيظتك محيطها المسمّى  "الهادئ الهادر"، وفي مدينة الشمس الساحرة، "لوس أنجليس"، تحديداً، حيث أقمت، بعد أن قطعت آلاف الأميال ـ بالطائرة ـ تعتريك مشاهد حالمة، ليست أفضل مما كنت قد رأيتها في مختلف الولايات والمدن الأميركية التي سبق أن زرتها غير مرّة، سواء بداعي السياحة أو العمل، في "سان فرانسيسكو" ـ مدينة "سان خوسيه" على وجه التحديد، وفي "شيكاغو"، أو "نيويورك"، و"نيو جيرسي" بالإضافة إلى "المسيسيبي" - جنوب القارة الهائجة المائجة - أو في "أيوا"، وأيضاً في "كولورادو"، وعاصمتها المبهجة "دِنْفِر"، في الوسط الغربي الأميركي، فضلاً عن "جورجيا" ومدينتها الرئيسة "أتلانتا"، أو "ممفيس"، و"ديترويت"، أو في "لويزيانا"، وبالتحديد في مدينة "نيو أورلينز" التي زارها "إعصار كاترينا" قبل نحو أربعة عشر عاماً، وتحديداً في 28 أغسطس/ آب 2005 بعد عبوره ولاية فلوريدا حيث ازدادت قوّة كاترينا لتصل إلى 5 درجات بريح سرعتها 175 ميلاً بالساعة "280 كم/ساعة"، ودمّر جزءاً كبيراً من المدينة التي يتسيّدها أعتى خمسة آلاف مجرم من النوع الثقيل في العالم، وهذا ما شاهدته بالفعل بالعين المجرّدة، وإن كان لعدسات المصورين نصيب الأسد في إفراز مساحات كبيرة في نقل ما حدث، وبصورةٍ مرعبة، إن لم تكن مخيفة حقاً!! ناهيك عن المدن والولايات الأميركية الأخرى.

وقبل توجهي إلى النمسا في عام 2014، كان أحد الأصدقاء قد أكد لي أن أميركا تظل بكل المقاييس بلداً عملاقاً. بلد كبير وضخم، ومن الصعب جداً مقارنته بأي دولة أوربية مهما كانت ذات شأن كبير، للكثير من الأسباب. يكفي أنَّ أميركا بلد اقتصادي عملاق، ومساحتها شاسعة، وتشتمل على تعدد الجنسيات المختلفة في العالم، وتنوّع في الأعمال التي يقوم بها الأخوة العرب المقيمون على أراضيها، وتناسب قدراتهم وأمزجتهم.

بصراحة، تظل الولايات المتحدة حكاية أخرى لا يمكن بأيّ حال مقارنتها بأيّ بلد من بلدان القارّة العجوز التي كنا قد قرأنا عنها أو سمعنا بها قبل السفر إليها واستقرارنا فيها، وبعد أن حطّت أقدامنا على أراضيها أدركنا بالفعل أنّ من غير المجدي إجراء مقارنة، وإن كانت سطحية، بينها وبين أي دولة أو قارة أخرى. فالبون شاسع جداً، وهذا ما يعني أنَّ أميركا تظلّ بلا منازع سيّدة العالم، ومن البلاد الأكثر ثراءً وهيمنة ومكانة، فضلاً عن توافر الأعمال المختلفة، والدخول المالية المغرية مقارنةً بغيرها من دول العالم الآخر، وهذا ما يثير قريحة الذين سبق أن زاروها في أكثر من مرّة وتغنوا بها، وعرفوا عنها الشيء الكثير، وتركت في نفوسهم آهات وأحلام العودة إليها من جديد.

وبخبرتي المتواضعة، بتُّ أعرفُ بعض الشيء عن هذه القارّة الحافلة، والدنيا الهائجة المائجة، تلك القارة التي قامت على الهجرة، على الوافدين، فلا يكادُ يوجدُ شعبٌ في العالم القديم إلّا وله جالية في هذا العالم الجديد، في مساحة تبدو كأنها لا آخر لها، في بيئات جغرافية متفاوتة، من المدن الكبرى، إلى القرى الصغيرة، إلى الجبال المغطاة بالثلوج، إلى المساحات الشاسعة من السهول الزراعية، إلى الصحراوات الحارّة الكبرى التي تُضارع صحارى آسيا وأفريقيا.

إنَّ أميركا ما زالت في الواقع دولة شابة، ليست في شيخوخة أوروبا مثلاً، فهي كالمعدة الشرهة تهضمُ المهاجرين، وتمتصّ العقول من كل أنحاء العالم، وكلّنا نعرف في بلادنا مشكلة هجرة العقول ويعرفها معنا العالم كلّه من أوروبا إلى آسيا وأفريقيا. فالشاب الذي يذهب طالباً للعلم، وينبغ، نادراً ما يعود إلى بلده، بعكس الذاهبين إلى أوروبا مثلاً، وفي أميركا يقولون إنَّ أهم سلعة تستوردها أميركا هي العقول الأجنبية.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.