ذكرى ذلك البيت

ذكرى ذلك البيت

19 يناير 2020
+ الخط -
حين كنت طفلة، وكنا في منزلنا الأول، كان أبي يسمح لي بالبقاء معه في مكتبته المحرَّمة على الباقين، خلا إن وُجدت حجة. لم تكن مروة قد وُجدت بعد، وكنت أرسم على مكتب والدي البني، المكتب نفسه الذي تمتلكه التوأم في غرفتهما الآن. أحمل أوراقاً وأرسم، غالباً كنت أرسم منزلاً، وأعيد رسمه مراراً وتكراراً دون تطور ملحوظ. ولم أكن أمل من ذلك! وحين يكون أبي في مزاج جيد يقول لي:
- ستكونين أول فنانة مسلمة في العالم.

في تلك الآونة ظننت حقاً أنْ لا وجود لفنانات مسلمات في العالم، ولا أظن أن والدي كان يعتقد ذلك. ربما كان يذكّرني بديني فقط؛ أني مسلمة. بعدها بسنوات، نسيت كل ما قد يعرِّفني؛ ديني وانتمائي الجغرافي وجنسي. ربما علم والدي أني سأنسى يوماً ما أني مسلمة ومغربية وفتاة، وأني سأدهش كلما ذكّرني أحد بذلك.


كل ما كنت أفعل هو أداء ما يتوجب عليّ دون التفكير في الأمر، والإجابة عن سؤال عنصري سيحدد طريقة التعامل معي بدون اكتراث، والهرب من كل ما يذكرني بأني فتاة. علمت لاحقاً أنه يحق لي التفكير في صحة كل ما تعلمته، فشعرت ليلاً بقشعريرة تثقبني وأنا أفكر في احتمالية عدم وجود إله. مضى وقت كافٍ لأعرف ما أريد، وأؤمن بحقيقة حياتي. كنت أشعر بأني أغوص بداخلي، شيئاً فشيئاً، كأن داخلي كائن هلامي، ويصعب علي السباحة فيه. لم أصل إلى القاع بعد، لكني تعلمت الغوص على الأقل.

حين علمت بأني أمازيغية - أو ربع أمازيغية - كان عمري سبع عشرة سنة، لم يختلف الأمر كثيراً، رغم أني تظاهرت بغير ذلك. لا أشعر بانتماء حقيقي إلى الوطن، لا أستطيع تحديد السبب، لعلي لا أعرف قيمته، ربما لأننا لا نعرف قيمة الشيء إلا حين يسلب منا. دائماً أفكر في أني لا أنتمي إلى مكان محدد، لا شيء مهم في الإنتماء بالنسبة إلي. لا مكان تشعر بالارتباط به، لا مكان تشتاق إليه. يخبرني جزء مني أني سأصير رحالة يوماً ما. لا انتماء حتى في الحب. لن أنتمي يوماً إلى مكان أو شخص، هذا عرفته يوم حددت موطني في مرسمي فهربت منه. الانتماء قيد، وأنا أريد الحرية. قال كلب أصفر يخاف مصاصي الدماء يوماً: أينما حلّ قلبك حلّ موطنك، وقلبك في جسدك.

حين أتذكر كوني أنثى، أتذكر أن أول صفة لنا عند الشباب هي الضعف. لذلك قررت أن أكون قوية، وألا أحتاج أحداً. الصعب في تقبُّلي جنسي يكمن في محدودية الخيارات المتاحة أمامي. عليك تحدي كل شيء، وتكوين شخصية تنفي عن نفسها كل ضعف أو جهل أو عار أو عبء. لذلك ـ بسبب كسلي ـ نسيت جنسي فحسب. يصعب أن أكون فتاة، لكني إنسان في النهاية، وكل ما أريده هو أن أكون إنساناً سويّاً.

دلالات