في سياق الإجابة عن "لو"!

في سياق الإجابة عن "لو"!

18 يناير 2020
+ الخط -
ينخرنا التفكير في قادم الأيام، وما تخبئه لنا من أحداث وتطورات، وفي بلادنا التي تحترق تصبح هذه الأسئلة خبزنا اليومي، متى ينصلح الحال؟ وكيف سيكون الغد؟ وأسئلة لها علاقة بالواقع المعيشي والاقتصاد والسياسة وغيرها. إنه التطلع المحموم للآتي، علّنا نرى فيه بصيص نور، يُذهب ظلمة الواقع المتوحشة.

تبقى هذه الأسئلة نبوءاتنا الصغيرة، ليست نوعاً من الكهانة، معاذ الله، بل هي محاولة يائسٍ لاستشراف طرف خيطٍ إيجابيّ، علّنا ننسج منه شيئاً ذا قيمة، نغطي به ما بقي من صبرنا، نقيه برودة المجهول، لن يسدّ رمقنا الذي شارف على الانتهاء، ولكنها محاولتنا الأخيرة للبحث عن إجابة واضحة، إجابةٌ يبحث عنها الملايين ولن يجدوها... إذ نعيش في عالم نشرات الأخبار فيه أشبه بتعداد مباشرٍ للقتلى، توردهم القنوات في نشراتها الملونة، تستخدم كل تقنيات الدنيا لتنقل إلينا تلك الأخبار، هي أشبه ما تكون بذلك الجزار الذي يعدّ ذبائحه، أرقامٌ تتبع أرقاماً، والجلاد يستلذ بصبّ الكأس تلو الأخرى، علّه أخيراً يسكر ولو بعض الشيء من دمائنا، ولكنه يتابع الصب والسكر والقتل وأحياناً الطرب والغناء... سيرورة متواصلة لا نهاية لها، ولكننا نحن من ننتهي.

مشهدية الجلاد، وتلك الأيدي التي بزغت في فجر تلك الأيام الغائرة في القدم، أضحت هذه الأعوام القليلة الماضية أعماراً متطاولة من الغياب والقهر، تنسم الربيع في مستهلها أياماً معدودة، ولكنه ما برح أن تحول شتاءً قاسياً، اختفت الحناجر وأبيدت الزهور، كأن حيوانات ضخمة دهستها بأظلافها المتحجرة... لقد ازدرع المجرمون خلف كل أمنية قبراً، وفي زاوية كل شارع حرباً... ومن هنا بدأ البحث عن جواب "لو"، أسئلةٌ كثيرة، أضحى أصحابها مشردين في كل قُطْر، لم يصلوا إلا بعد جهودٍ وتضحيات، تقابلوا مع الموت مرات كثيرة، وفي كل محطة كان يقول لهم، سآتيكم لاحقاً، ربما انشغل بغيرهم عنهم، ولكن الأسئلة عادت تلحّ عليهم بشدة مذ وصلوا... ماذا "لو"؟

ماذا لو لم نخرج في تلك الظهيرة من المسجد مهللين مكبرين؟

ماذا لو لم نهتف بإسقاط هذا أو ذاك؟

ماذا لو بقينا نتلقى الضربة تلو الضربة، ونحن نسبّح بحمد صاحب الجلالة والسلطان؟

ماذا لو لم ننتخب ذلك النظيف الحصيف؟ واخترنا مكانه سارق القوت ومانع الرغيف؟

ماذا لو قتلنا أول أمل لاح في مخيالنا المترنح؟

ماذا لو وأدنا جذوة الحرية التي اقتبسناها على حين غرة؟

ماذا لو لم نبنِ طموحاتٍ كانت أكبر من الممكن، وأكثر من أن يتحملها واقع؟

ماذا لو... ماذا لو... ماذا لو... أسئلةٌ بحجم خيبات أمة وويلات بلدان، تتهامسها الشفاه سراً، ويغرق فيها شاب يقف حزيناً على ضفاف البوسفور، وأخرى مكتوفة الأيدي تعمل في مطعمٍ على ضفاف الرين، وآخرون هناك تحت حمم الجلاد ما زالوا قابعين، أو مكممة أفواههم في سجن كبير جداً، كان يُطلق عليه اسم "وطن"...

هي سردية بالغة السوداوية، وسؤال لا يترك إجابة واضحة، بل يُخرج أشواكاً تنبت في ذواتنا الملتاعة، وتأخذ في التسلل إلى كل ثنية من ثنايا الروح، تختلط بعظام المرء ودمه، حتى نمضغ شوكاً بدل الطعام، ونبتلع غصصنا كأنها لعنات قديمة لم تصب سوانا... هي "لو" واحدة منها، إن لم تكن أسوأها، تختصر فقد الأحبة والبعد عن الوطن والموت في بحار ظالمة، وألف ألف وجعٍ ووجع.

أحلام جيل تشيخ على ضفاف الموت، وهناك من يسدّ الأفق بفوهة بندقية، لن أجيبكم عن "لو"، ولن أتصنع وجود أملٍ غير موجود، لن أكذب على نفسي وعليكم، ولكنْ "لو" مرضٌ قاتل صامت، ولا علاج له إلا اختراع ثقبٍ أسود في واحدة من زوايانا المهملة، نلقي فيها تلك الأسئلة، ونعود للانشغال بأشيائنا الصغيرة. نعم هو هروب جديد، ولكنه هروب متجدد إلى الذات، لكي نعيد صياغة الأسئلة مرة أخرى، وبدل "لو"، فلتكن إلى أين... 

31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".