رجال في حياة ماجدة! (1/2)

رجال في حياة ماجدة! (1/2)

19 يناير 2020
+ الخط -
هل كان نجيب محفوظ حريصاً على سمعة ماجدة الصباحي وعلى رأي الجمهور في صورتها السينمائية، أم أنه كان حريصاً على أن ينقذ روايته منها؟ 

في مذكراتها التي سجلها الكاتب السيد الحراني، وصدرت عن مركز الأهرام للنشر في عام 2014، تحسرت الفنانة ماجدة الصباحي على أنها لم تتمكن من أداء الشخصية التي أدتها الفنانة شادية في فيلم (ميرامار)، ثم أضافت قائلة: "أتذكر أنني ذهبت بعد أن قررت خوض غمار تجربة الإنتاج إلى نجيب محفوظ للتعاقد معه على رواية من مؤلفاته كانت قد أعجبتني، ورحب بي فور أن شاهدني، فكان رجلاً شهماً وطيباً، "دمس" الخلق (وردت هكذا في الأصل) كريم الطباع إلى أبعد مدى، وعندما علم ما أريد رفض إعطاءها لي وقال لي: "يا ماجدة رواياتي لا تناسبك"، فسألته عن السبب فأكد لي لأنها تناقض شخصيتي وأدائي في التمثيل، قائلاً: أنت أدوارك تستطيع أن تدخل كل بيت وكل أسرة ويتقبلها الجميع، بينما أدوار بطلات رواياتي لا يتقبلها الجميع، ورجاني ألا أغضب من رأيه، فأكدت له أنني لا يمكن أن أغضب من رجل تتوافق طباعه مع طباعي، فهو مثلي يعلم عبء الرسالة التي يحملها وحريص على أن يوصلها للجمهور بالشكل الصحيح، فلم يكن رفض نجيب محفوظ لشكّه في قدراتي التمثيلية ولكنه كان يقصد أن الغالبية العظمى من رواياته الإثارة والإغراء جزء رئيسي فيها، وهذه الأدوار لا تتناسب معي، فأنا كان لي دائماً قالبي الخاص الذي يتمتع بالهدوء وتجنب الإثارة، وكانت هذه شروطي عند قبول أدواري واعتاد الجمهور أن يشاهدني في هذا النوع من الأدوار وكان الجميع يرى أنني أمثل جزءاً من أسرتهم، أختهم أو بنتهم أو قريبتهم".

لكن ماجدة تمكنت بعد ذلك بسنوات من تقديم فيلم عن رواية (السراب) التي كانت المؤسسة العامة للسينما قد اشترتها بالفعل من نجيب محفوظ، وتقول ماجدة إنها أدركت أهمية الرواية وموضوعها الشائك، ولذلك ضحت بلعب دور البطولة التي كانت من نصيب الممثل الجديد نور الشريف، الذي وقفت إلى جواره حين اعترضت عليه مؤسسة السينما ووقعت على خطاب بأنها تتحمل تبعات إصرارها على تجسيده لدور البطولة، ورفعت أجره إلى 500 جنيه، لكنها فوجئت حين بدأ التصوير بعدم انضباطه وحضوره إلى الاستديو متأخراً مع فتيات من معجباته،  فألغت التصوير وواجهته قائلة إنها لن تحمّله تكاليف اليوم، فوعدها بالانضباط ووضع في الدور كل طاقته ليكون الفيلم نقطة انطلاقه الفنية، وهو موقف تكرر بعد ذلك حين أنتجت فيلم (العمر لحظة) حين قررت أن تُلغي تصوير يوم في الفيلم بسبب تأخر الممثل الصاعد وقتها أحمد زكي عن التصوير، لكنها قررت هذه المرة أن تحمّله تكلفة إلغاء التصوير، فحضر أحمد زكي إليها وهو يضع على إحدى ذراعيه وقدميه بعض القطن والشاش، معلّلاً تأخره بأنه أصيب في حادث، فقالت له إن تمثيله أمام الكاميرا يقنعها أكثر من تمثيله عليها الآن، فضحك وقال لها إن كل ما حصل عليه من أجر في الفيلم لا يكفي لشراء إطار واحد في مدرعة من التي استُخدمَت في التصوير، واعتذر وأكد لها أن التأخير لن يتكرر، فسامحته ماجدة التي لم تكتفِ وهي تروي الحكاية بالإشارة إلى دعمها الفني لأحمد زكي، بل تذكرت أنه كان دائم التردد على مكتبها للبحث عن فرصة فنية، وأنه ذات مرة رأى في مكتبها جهاز كاسيت أحمر فأعجبه وتمنى أن يكون لديه مثله، فأهدته إليه، خاتمة حكايتها عنه بالفخر بأن أحمد زكي كان البطل رقم ثلاثة في الفيلم بعدها وبعد محمد خيري، وبغضّ النظر عن مسألة الترتيب التي قد تختلف فيها الآراء، فالمؤكد أن الفيلم كان من المحطات التي ساعدت على لفت الأنظار إلى موهبة أحمد زكي في مرحلة صعبة من مشواره الفني.

وعلى ذكر علاقتها بالكتّاب والأدباء، تروي ماجدة أن الدكتور يوسف إدريس زارها يوماً في مكتبها بعد أن قامت بإخراج وإنتاج وبطولة فيلم (من أحب)، وكانت ترغب في التعاون معه في إنتاج أحد أعماله، وبالتحديد قصة (نظرة يا ست) التي أعجبتها، وفوجئت به يقول لها معبراً عن إعجابه: "من أين تأتين بكل هذه القوة التي تواجهين بها هذه الدنيا المتوحشة، فتمثلي وتنتجي وتخرجي وتوزعي أفلامك وتوفقي في كل هذا وأنتِ أنثى رقيقة بكل معنى الكلمة؟"، ثم فاجأها بعد ذلك بقوله: "إني جئت اليوم إليكِ بدافع أكبر من العمل معكِ، وهو أن أقبلكِ"، فظنت أنه يمزح، خاصة أنه كان معروفاً بجرأته في التعبير عن مشاعره، وحين استنكرت ما قاله ردّ قائلاً: "لا تجعليني أغلق باب مكتبك وأنفذ ما جئت من أجله"، فثارت غاضبة وأنهت اللقاء، لكنها كما تضيف لتخفيف وقع ما قالته على القراء، أكدت أنها عرفت فيما بعد أنه كان يمزح، لكنها أخذت كلماته على محمل الجد، ومع ذلك فقد قالت في موضع آخر إن هجومه انهال على أفلامها بعد ذلك بشكل وصفته بأنه ليس فنياً "ولم يكن كامل النزاهة عن اختلافات شخصية".

تؤكد ماجدة في مذكراتها أنها هي التي اختارت يوسف شاهين لإخراج فيلم (جميلة بو حريد) الذي تولت إنتاجه، نافية ما كان شاهين يقوله دائماً عن أن زميله المخرج عز الدين ذو الفقار هو الذي أحضره ليحل محله في الفيلم، كاشفة أنها دخلت في مواجهة عنيفة مع عز الدين ذو الفقار، لأنه أصرّ على أن يغيّر سيناريو الفيلم، وقرر أن يربط بين ما حدث في الجزائر وما يحدث في مصر من تطورات سياسية عقب ثورة يوليو التي صنع في دعمها وتأييدها أكثر من فيلم، لدرجة أنها مزقت صفحات مشاهد كان قد كتبها، وألقت بها من الشباك أمامه، فدخلت معه في مواجهة عاصفة، وانسحب من إخراج الفيلم للضغط عليها، لأنها كانت قد بنت ديكورات في استوديو مصر لحيّ القصبة الشهير في العاصمة الجزائرية كلفت نحو مائة ألف جنيه، وهو رقم شديد الضخامة وقتها، ولكي لا تتعرض لخسائر فادحة بسبب تأجيل التصوير، اتصلت بيوسف شاهين واتفقت معه على إخراج الفيلم، برغم أنها لم تكن من المعجبين بأفلامه التي لم تكن تنجح تجارياً في ذلك الوقت. 

طلب شاهين بعد قراءة السيناريو تغيير بعض المشاهد، لكي لا تظهر شخصية جميلة وطنية من البداية، بل تبدأ كشخصية عادية هادئة، ثم يحدث ما يفجر بذرة الوطنية الموجودة بداخلها مثل كل إنسان، واقتنع كتّاب السيناريو وماجدة برأيه، ومع بدء التصوير تفجرت الخلافات بين ماجدة وشاهين، حين وجدت أنه يطلب منها الحركة داخل المشاهد التي يجري تصويرها بسرعة وصفتها أنها غير طبيعية وتبتعد عن الواقعية، وتفجر الخلاف في مشهد كان يفترض أن تزرع فيه جميلة عبوة ناسفة، ورأى شاهين أنها لا بد أن تمشي بسرعة، فيما رأت ماجدة أن مشي البطلة بهدوء سيكون أكثر منطقية، لأنها لا تريد لفت الأنظار إليها.

تقول ماجدة إن اعتراضاتها زادت على شاهين حين وجدت أنه يهتم دائماً بالعمق الموجود داخل الكادرات، ما يجعل وجه الممثل الموجود في صدارة الكادر أقل قيمة، فأعلنت رفضها له وقالت له: "يوسف، أنا أرفض هذه الطريقة في التصوير، فأنت تصور بعدسة 28، وهذه لا تظهر طبيعة وجه الممثل، ومن أجل هذا صوّر بعدسة 35"، لكن شاهين رفض تدخلها في عمله، وبوصفها منتجة الفيلم ذهبت إلى مدير التصوير عبد العزيز فهمي "وأشرت له أن يصنع ما أريد، ولكن يوسف أشار إليه بأن يصنع ما يريده هو، وهكذا تبادلنا على المصور مرات عدة حتى فوجئنا بأنه يصرخ وقال لنا: حرام عليكو أنا بشر جننتوني، ووقع على الأرض فاقد الوعي، وتوقف التصوير يومين، ولم يعد التصوير إلا وأنا منتصرة، ووضعت العدسة التي أريدها، وطوال فترة التصوير كنت أتناول أدوية مهدئة بسبب خلافاتي مع يوسف شاهين". 

تقول ماجدة إن شاهين كان كعادته في كل أفلامه يمثّل المشهد لها قبل التصوير ليطلب منها تحقيق رؤيته، لكنها كانت ترفض وتطلب منه ألا يفعل ذلك "حتى لا أفعل مثلك وأروح في داهية والناس تبطل تتفرج على أفلامي"، ومع تزايد الخلافات توقف الاثنان عن الكلام مع بعضهما، فكان شاهين يبلغها تعليماته من طريق مساعده علي رضا، فتبلغه الرد قائلة: "قول للأستاذ هي ليها طريقتها"، وخلال مشهد صُوِّر في الفيوم، طلب شاهين أن يحضر له الإنتاج "بقر وجاموس" لم يكن موجوداً ذكره في المشهد المكتوب، وحين أبلغت اعتراضها لعلي رضا، قال له شاهين: "قول لها بلاش تتكلم كتير وتسكت خالص"، فقالت لعلي رضا: "قوله ما يتكلمش بهذا الأسلوب وإلا حاجيبلوا رشدي أباظة"، فنظر إليها في غيظ وصمت لأنه كان يخشى رشدي أباظة ويحترمه، وكان رشدي يقف إلى جوارها كثيراً في مشوارها الفني ويساعدها على حل الكثير من الأزمات التي تعرضت لها كمنتجة. 

في إحدى المرات، وبعد تصاعد الخلافات بين ماجدة ويوسف شاهين، قالت ماجدة إن شاهين  سرق بعض نيجاتيفات مشاهد الفيلم وأخفاها واختفى، قائلاً: "خليها تبحث عني"، وتوقف تصوير الفيلم، فقررت ماجدة حل الأزمة بطريقة غير سينمائية، فذهبت إلى مبنى جهاز المخابرات العامة المصرية لتقابل فتحي الديب، المسؤول عن الشؤون العربية في الجهاز والمكلَّف التضامن مع اللجنة العليا للجزائر لمتابعة تصوير الفيلم، وكان مسؤولون منه قد أشرفوا على بناء ديكورات حيّ القصبة ليأتي مطابقاً للحيّ الأصلي، وبعد تلك المقابلة استُدعي يوسف شاهين بعدها إلى المخابرات وحُذِّر من تعطيل تصوير الفيلم، وأُجبِر على إعادة النيجاتيف الذي أخذه في حضور ماجدة داخل مبنى جهاز المخابرات، واصفة شاهين بأنه كان يجلس وهو مرعوب وأنه قال بعدها: "ماجدة دي قوية". 

خلال تصوير مشهد المستشفى في فيلم (جميلة)، طلب يوسف شاهين من رشدي أباظة أن يضغط على ذراع ماجدة الذي يفترض أنه مكسور طبقاً لأحداث الفيلم، ثم يلفّها بغطاء السرير ويلقي بها على الأرض، فقالت له ماجدة: "أنت تريد أن تتخلص مني، خليك على طبيعتك وأخرج ما بداخلك"، وأصرت على الاستعانة بدوبليرة لتنفيذ المشهد، لكنها تحمست لقصّ شعرها بشكل تقول إنه أدى إلى ارتباط الفيلم بها كممثلة، بشكل تدعي أنه أغضب يوسف شاهين، ولذلك لم يكن يتحدث عن فيلم جميلة في حواراته، وقال مرة إنه ليس فيلمي، ولكنه فيلم ماجدة، ولكي تثبت أنها لم تنسَ خلافاتها مع شاهين برغم مرور عقود على تصوير الفيلم، زعمت في حوارها مع كاتب المذكرات أن الجمهور لم يهتم بمعرفة مخرج الفيلم، "وأنك ستجد على الإنترنت الآن كثيرين يتساءلون عمن هو مخرج فيلم جميلة؟"، مع أنها تقول في موضع آخر من المذكرات إنها تعاونت معه بعد ذلك في فيلم (بين إيديك)، ووافقت على المشاركة كضيفة شرف في مشهد من مشاهد فيلم (حدوتة مصرية)، قام فيه بتصوير ذهابه بفيلم (جميلة) إلى مهرجان موسكو، ما يعني أنه لم يسقطه من حساباته الفنية كما ادعت ماجدة. 

...

نكمل غداً بإذن الله. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.