الاقتصاد الرقمي... مظاهره وتحدياته ومستقبله

الاقتصاد الرقمي... مظاهره وتحدياته ومستقبله

13 يناير 2020
+ الخط -
استطاع الغزو التكنولوجي المعاصر أن يجتاحَ العالم بأسره، ولم يستقر أو يتوقف عند حدودٍ معينة، بل يسعى إلى الانتشار السريع بصفته انعكاسًا طبيعيًا لمنحنى التطوّر الآخذ في النمو، والمتزامن مع تقديمه الكثير من الابتكارات المتمثلة بقفزاتٍ نوعية ومتسارعة لها آثارها الواضحة، والتي لم تنحصر في حيزٍ مغلق، بل باتت جزءًا أساسيًا ومشاركًا فعّالًا في عددٍ من المجالات، كالسياسة والاقتصاد، العنصران الأساسيان في المجتمعات البشرية، فقد أثّرت التطوّرات الرقمية المتلاحقة في السياسات الدولية وساهمت في تغيير الكثير من مكوّناتها، كما أن تأثيرها امتد إلى الأنظمة الاقتصادية، وصار عاملًا من عوامل التنمية على المدى البعيد، وساهم لاحقًا في ظهور نواة اقتصاديات مستحدثة، لها بصمة لا يمكن نكرانها في خريطة الاقتصاد العالمي، لعلّ من أشهرها (الاقتصاد الرقمي) الذي يُعدّ حديث الساعة في الوقت الحالي.

يعتبر الاقتصاد الرقمي النتيجة المنبثقة عن الربط بين الاقتصاد والبيئة الرقمية وأدواتها، لتشكّل معًا نظامًا اقتصاديًا جديدًا ومتطوّرًا ومختلفًا عن الأنظمة الاقتصادية السابقة، مع ارتكازه بطبيعة الحال على أفكار ونظريات وآراء مفكّري وعلماء الاقتصاد، إلا أنه ينقل الصورة الاقتصادية المواكبة للحداثة، بسبب دوره في الجمع بين الفكر الاقتصادي والأدوات الرقمية، وهو ما أدّى إلى تعدّد المصطلحات المستخدمة لتوضيح ووصف الاقتصاد الرقمي، فهو اقتصاد قائم على المعلومات والإحصاءات والخوارزميات الرياضية التي يحصل عليها من مصادر رقمية، غالبًا تكون من شبكة الإنترنت، والذي يدفع عجلة التنمية ويرفع المؤشرات الاقتصادية. وأيضًا يمثّل الاقتصاد الرقمي ذلك التفاعل بين التكنولوجيا والاقتصاد والإنسان، بتوظيف الأجهزة الذكية في الحصول على الأرباح والعوائد المالية الناجمة عن العمليات التجارية عبر الإنترنت، والذي يعود بالفائدة على الأفراد والدول.

إن اندماجَ الاقتصاد الرقمي مع المجتمعات البشرية يظهر بمجموعة مظاهر تكاد لا تحصر في مكانٍ واحد، ومنها التجارة الإلكترونية باعتبارها الشكل الحديث والأكثر عصرية للتجارة، وهي كل نشاط تجاري يُنفّذ بواسطة الإنترنت ووسائل الاتصال الإلكتروني بين المشتري والبائع؛ حيث يتم توفير السلعة أو الخدمة، وتسديد ثمنها، وتوصيلها إلى موقع استلامها بطريقةٍ إلكترونية، يلي ذلك التسويق الإلكتروني الذي يروّج الأشياء المتاحة للبيع عبر الشبكة العنكبوتية، ويسعى لاستهداف شريحة كبيرة من الأفراد، من خلال عرض الإعلانات أمامهم عند ولوجهم المواقع الإلكترونية المختلفة كالأسواق الافتراضية، وأثناء استخدامهم التطبيقات والبرامج المتاحة عبر الأجهزة الذكية، وأخيرًا الاستثمار الإلكتروني وهو الاستعانة بالإمكانات والأدوات المتوفّرة عبر شبكة الإنترنت لتنفيذ صفقات مالية، مثل شراء الأسهم وتداول العملات، ويمتاز هذا النوع الحديث من الاستثمار بتنوّع المصادر الاستثمارية، وتوفير معلومات مالية مُفصّلة بأقل جهد وكلفة.

يواجه انتشار مظاهر الاقتصاد الرقمي بصورة هائلة تحدياتٍ متنوّعة، وترتكز بالمجمل على صعوبة قبوله والتأقلم مع التغيرات المرافقة له، وافتقار بعض الدول إلى الأساسات الداعمة والموارد اللازمة لتوفير جميع ركائزه، من تقنيات وأجهزة وشبكات اتصالات فائقة السرعة، مع غياب ثقة الكثير من النّاس بالعمليات الاقتصادية المالية والتجارية الإلكترونية، لاعتيادهم على إجرائها بطرقِ تقليدية، وعدم امتلاك بعضهم مهارات استخدام الأجهزة الذكية والمتطوّرة، وقناعتهم بأن هذه العمليات قد تخترق خصوصيتهم، كما أن ارتفاع تكاليف تزويد خدمات الإنترنت في الدول الفقيرة والنامية يُعيق عمل الاقتصاد الرقمي، ويجعل إمكانية الاستفادة من مخرجاته شبه معدومة.

بعد عرض عددٍ من المظاهر والتحديات المحيطة بالاقتصاد الرقمي، يصبح من المهم الإجابة عن سؤالٍ محوري، وهو كيف سيكون مستقبل الاقتصاد الرقمي؟ تحديدًا في العالم العربي، ويحتمل هذا السؤال إجابات كثيرة، ولكن من الممكن إيجاد إجابة نموذجية له، وهي ضرورة وجود إرادة كافية لمواجهة التحديات وتعزيز المظاهر، عن طريق اهتمام الدول العربية بتوفير البنية التحتية المناسبة والقوانين المنظّمة للأعمال الاقتصادية الرقمية، وتشجيع الشركات الدولية، خاصّةً العاملة في السوق الرقمي، للاستثمار في الأسواق العربية، ودعم المشاركة بين القطاعين العام والخاص، وتعزيز التبادلات التجارية المبنية على الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات، وغيرها من الطرق الضامنة والمحفّزة لنجاح الاقتصاد الرقمي، وترسيخ وجوده في العالم العربي.